للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

يحضر صلاة الفجر إلا وقد صار ذلك الجامع ممتلئا من الناس، وهم مزدحمون فيه، لأنه وصل إليه من لم يكن معتادا للصلاة فيه شوقا إلى كلام الجنيد، مع أنه لم يكن إذ ذاك في رتبة [٤ أ] الشيوخ، بل هي من جملة تلامذة شيخه، ولكن الأسرار الربانية تعمل عملها، والعمل الصاع لا يخفى. فلما فرغ أهل الجامع من الصلاة تهيا الجنيد للكلام، وقد التف عليه الناس حتى كأنهم على موعد لذلك، وكأنه قد صاح بينهم صائح. ما دار بينه وبن شيخه تلك الليلة، فقبل أن يتكلم بدره واحد من بين أولئك المستمعين فقال: يا شيخ، ما معنى قول النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- " اتقوا فراسة المؤمن فإنه يرى بنور الله " (١)؟ فأطرق الجنيد ثم رفع رأسه وقال: أسلم فقد آن لك أن تسلم، فقعد بين يديه وتكلم بالشهادتين، وذكر للجنيد ولذلك الجمع أنه من جملة النصارى الساكنين بذلك البلد، وأنه لما سمع الناس يتحدثون تلك الليل بأن الجنيد سيتكلم في الجامع بعد صلاة الفجر بقي مفكرا، وأدرك في قلبه ميلا إلى الإسلام، وعزم على حضور ذلك الجمع مريدا لاختبار الجنيد هذا الحديث، مع كونه قد لبس لباس الإسلام، وقال في نفسه: إن كاشفني أسلمت فكاشفه. مما تقدم، وصار ذلك الرجل من خيار المسلمين (٢)، فانظر هذا الكشف من مثل هذا الولي، واعرف به ما عند أفاضل هذه الطائفة من المواهب الربانية، وأسال ربك أن يجعل لك نصيبا مما فاض عليهم من تفضلاته على عباده. اللهم يا رب العالم، ويا خالق الكل، ويا مستوي على عرشك اجعل لنا نصيبا مما مننت به على هؤلاء [٤ ب] الصالحين، وتفضلت به عليهم، فالأمر أمرك، والخير خيرك، ولا معطى غيرك.

وبالجملة فمن أراد أن يعرف أولياء هذه الأمة، وصالحي المؤمنين المتفضل عليهم بالفضل الذي لا يعدله فضل، والخير الذي لا يساويه خير فليطالع الحلية لأبي


(١) تقدم تخريجه في هذه الرسالة.
(٢) ذكر هذه القصة ابن كثير في البداية والنهاية (١١/ ١٢٢) مختصرة بدون سند.