إنَّ أرض مصر من البلاد العجيبة الآثار، الغريبة الأخبار، وهي وادٍ يكتنفه جبلان شرقيّ وغربيّ، والشرقيّ أعظمهما يبتديان من أسوان ويتقاربان بأسنا حتى يكادا يتماسان، ثم ينفرجان قليلا قليلا، وكلّما امتدّا طولا انفرجا عَرضاً، حتى إذا حاذيا الفسطاط كان بينهما مسافة يوم فما دونه، ثم يتباعدان أكثر من ذلك والنيلُ ينسابُ بينهما ويتشعَّب بأسافل الأرض وجميعُ شُعَبه تصبُّ في البحر المالح،
وهذا النيل له خاصتان: الأولى، بُعد مرماه، فإنّا لا نعلم في المعمورة نهراً أبعد مسافةً منه، لأنّ مباديه عيونٌ تأتي من جبل القمر وزعموا أن هذا الجبل وراء خط الاستواء بإحدى عشرة درجة، وعرض أسوان وهي مبدأ أرض مصر اثنتان وعشرون درجة ونصف درجة، وعرض دمياط وهي أقصى أرض مصر إحدى وثلاثون درجة وثلث درجة، فتكون مسافة النيل على خط مستقيمٍ ثلاثاً وأربعين درجة تنقص سُدسا ومساحة ذلك تقريبا تسعمائة فرسخ، هذا سِوى ما يأخذ من التعريج والتوريب فإن اعتُبر ذلك تضاعفت المساحة جداً.
والخاصة الثانية، أنه يزيد عند نضوب سائر الأنهار ونشيش المياه، لأنه يبتدئ بالزيادة عند انتهاء طول النهار وتتناهى زيادته عند الاعتدال الخريفي، وحينئذ تُفتح التُّرع وتفيضُ على الأراضي، وعلَّة ذلك أنَّ موادَّ زيادته أمطار غزيرةٌ دائمةٌ وسيولٌ متواصلةٌ تمدُّه في هذا الأوان، فأنَّ أمطار الإقليم الأول والثاني إنّما تغزُر في الصيف والقيظ.
وأما أرض مصر فلها أيضا خواصٌّ منها، أنه لا يقع بها مطر إلّا ما لا احتفال به وخصوصا صعيدها، فأمّا أسافلها فقد يقع بها مطرٌ جود لكنه لا يفي بحاجة
الزراعة، وأمّا دمياط والاسكندرية وما داناهما فهي غزيرةُ المطر ومنه يشربون وليس بأرض مصر عينٌ ولا نهرٌ سوى نيلها.