وحُكي لي أنه كان بمصر تسعمائة منسجٍ للحُصُر، فلم يبق إلّا خمسة عشر منسجا، وقِس على هذا سائر ما جرت العادة أن يكون بالمدينة من باعةٍ وخبازين وعطّارين وأساكفة وخيّاطين وغير ذلك من الأصناف، فإنه لم يبق من كلّ صنفٍ من هؤلاء إلّا نحو ما بقي من الحصريين أو أقل من ذلك.
وأما الدجاج فعُدِم رأسا لولا أنه جُلب منه شيءٌ من الشام، وحكي لي أن رجلا مصريا شارف الفقر فأُلهِم أن اشترى من الشام دجاجا بستين دينارا، وباعها بالقاهرة على القماطين بنحو ثمانمائة دينار، ولما وُجد البيض بيع بيضة بدرهم ثم بيضتين ثم ثلاثا ثم أربعا واستمر على ذلك، وأما الفراريج فبِيعَ الفرّوجُ بمائة درهم ولبث برهة يباع الفروج بدينار فصاعدا.
وأما الأفران فإنّها تُوقَد بأخشابِ الدُّور، فيَشتَرِي الفرّانُ الدار بالثمن البخس ويقد زروبه وأخشابه أياما ثم يشتري آخر، وربما كان فيهم من تُنشِّطه نذالته فيخرج ليلاً يجوس خلال الديار فيحتَطِبها ولا يجد ذاعراً.
وكثيرا ما تُقفر الدار بمالِكها ولا يجدُ لها مشتريا فيفصِل أخشابها وأبوابها وسائر آلاتها فيبيعها ثم يطرحها مهدومةً وكذلك أيضا يفعلون بدور الكسرا.
وأما الهلاليةُ ومعظم الشارعِ ودور الخليج وحارة الساسة والمقس وما تاخم ذلك فلم يبق فيها أنيس، وإنّما ترى مساكنهم خاوية على عروشها وكثيرا من أهلها موتى فيها، ومع ذلك فالقاهرة بالقياس إلى مصر في غاية العمارة وأهلها في غاية الكثرة.
وأما الضواحي وسائر البلاد فيباب رأسا، حتى أن المسافر يسير في كل جهة أياما لا يصادف حيوانا إلّا الرِّمم ما خلا البلاد الكبار كقوص وأخميم والمحلة ودمياط والإسكندرية، فإنّ فيها بقايا، وأما ما عدا هذه وأمثالها فإنّ البلد الذي كان يحتوي على ألوف خالٍ أو كالخالي.
وأما الأملاك ذوات الآجر المعتبرة، فأن معظمها خلا أو لم يبق دأب أهلها إلّا حراستها بسد أبوابها وتحصين مسالكها أو إسكانها من يحرسها بأجرة، اللهم إلّا ما كان من الملك في قصبة المدينة فإن بعضه مسكون بأخف أجرة، وأعرف ربعا في أعمر موضع بالمدينة كانت أجرته في الشهر مائة وخمسين دينارا، فعادت في هذه السنة إلى نحو عشرين دينارا، وآخر في مثل موضعه كانت أجرته في الشهر ستة عشر دينارا، فعادت إلى فُويق الدينار، وجميع ما لم نذكره على هذا القياس أفهمه.
والذي دخل تحت الإحصاء من الموتى ممن كفَّ وجرى له اسم في الديوان وضمّته الميضات في مدّة اثنين وعشرين شهراً أولها شوال من سنة ست وتسعين، وآخرها رجب من سنة ثمان وتسعين، مائة ألف وإحدى عشرة ألفا إلّا آحادا وهذا مع كثرته نزر في جنب الذين هلكوا في دارهم وفي أطراف المدينة وأصول الحيطان، وجميع ذلك نزر في جنب من هلك بمصر وما تاخمها، وجميع ذلك نزر
في جنب من أُكل في البلدين، وجميع ذلك نزرٌ جدا في جنب مَن هلك وأُكل في سائر البلاد والنواحي والطرقات وخاصة طريق الشام، فإنّه لم يرد أحدٌ من ناحيةٍ فسألته عن الطُّرق إلّا ذكر أنها مزروعةً بالأشلاء والرِّمَم وهكذا ما سلكته منها.
ثم أنه وقع بالفيّوم والغربية ودمياط والإسكندرية موتان عظيم ووباءٌ شديد لا سيما عند وقت الزراعة، فلعلّه يموت على المحراث الواحد عدة فلاحين، وحُكي لنا أن الذين بذروا غير الذين حرثوا وكذلك الذين حصدوا.
وباشرنا زراعةً لبعض الرؤساء فأرسل من يقوم بأمرِ الزراعة فجاء الخبر بموتهم أجمعين، فأرسل عِوضهم فمات أكثرهم، هكذا مراتٍ في عدة جهات وسمعنا من الثقات عن الإسكندرية أن الإمام صلَّى يوم الجمعة على سبعمائة جنازة، وأن تركةً واحدة انتقلت في مدة شهر إلى أربعة عشر وارثا، وأن طائفة كبيرةً من أهلها تزيد على عشرين ألفا انتقلوا إلى برقة وأعمالها فعمروها وقطنوها، وهذه برقة كانت مملكة عظيمة وخربت في زمن اليازوري وعلى يديه، وكان وزيرا ظالما، فجلا عنها أهلها وسكن كثير منهم بالإسكندرية، وكان هذا الحادث تقاص في الطبيعة.
ومن عجيب ما اتفق لشيخ من أطباء يهود مصر ممّن ينتابني سوى من سبق ذكرهم، أن استدعاه رجل زبونه ذو شارة وشهرة بستر ودين وجدة، فلمّا حصل في المنزل أغلق الباب ووثب عليه فجعل في عنقه وهقا ومَرَتَ المريض خصيتيه غيرَ أنه لم تكن له معرفة بالقتل فطالت المناوشة وعلا ضجيجه فتسامع الناس ودخلوا، فخلَّصوا الشيخ وبه رمقٌ يسير وقد كسرت ثنيّتاه وحُمل إلى منزله مغشيا عليه وأحضروا الفاعل إلى الوالي فسأله ما حملك على ما فعلت، فقال: الجوع فضربه ونفاه.
واتفق سحرة يوم الاثنين السادس والعشرين من شعبان وهو الخامس والعشرون من بشنس، أن حدثت زلزلة عظيمة اضطّرب لها النّاس، فهبّوا مِن مضاجِعهم
مدهوشين، وضجوا إلى الله سبحانه، ولبثت مدة طويلة كانت حركتها كالغربلة أو كخفق جناح الطائر وانقضَت على ثلاث رجفات قويّة مادَت بها الأبنية واصطفقت الأبواب وصرصرت السقوف والأخشاب، وتداعى من الأبنية ما كان واهيا أو مشرفا عاليا ثم عاودت في نصف نهار يوم الاثنين، إلّا أنها لم يحس بها أكثر الناس لخفائها وقِصر زمانِها وكان في هذه الليلة بردٌ شديدٌ يحوج إلى دثِار خلافَ العادة، وفي نهار ذلك اليوم تبدّل بِحرٍّ شديد وسموم مفرط يضيق الأنفاس ويأخذ بالكظم وقلما تحدث زلزلة بمصر بهذه القوة.
ثم أخذت الأخبار تتواترُ بحدوث الزلزلة في النواحي النائية والبلاد النازحة في تلك الساعة بعينها، ولذا صحَّ عندي أنها حركت في ساعة واحدة طابقةً من قوص إلى دمياط والإسكندرية ثم بلاد الساحل بأسرها والشام طولا وعرضا وتعفّت بلادٌ كثيرةٌ بحيث لم يَبقَ لها أثرٌ وهلك مِن الناس خلقٌ عظيم وأمَمٌ لا تُحصى، ولا أعرف في الشام بلدا أحسن سلامة من القدس فإنّها لم تُنْكَ فيه إلّا ما لا بال، كانت نكاية الزلزلة ببلاد الإفرنج أكثر منها في بلاد الإسلام كثيرا.
وسمعنا أنّ الزلزلة وصلت إلى أخلاط وتخومها وإلى جزيرة قبرص، وأن البحر ارتطم وتموَّجَ وتشوَّهت مناظره فانفرق في مواضعَ وصارت فِرقه كالأطواد وعادت المراكب على الأرض وقذف سمكا كثيرا على ساحله.
ووردت كتب من الشام ودمشق وحماه تتضمن خبر الزلزلة، ومما اتصل لي من ذلك كتابان أوردتهما بلفظهما،
[نسخة الكتاب الوارد من حماه]
ولما كان سحرة يوم الاثنين السادس والعشرين من شعبان حدثت الزلزلة، وكادت الأرض تسير سيراً والجبال تمور موراً، وما ظنَّ أحدٌ من الخلق إلّا أنها زلزلة الساعة، وأتت دفعتين في ذلك الوقت، أما الدفعة الأولى فاستمرَّت مقدار ساعة أو
تزيد عليها، وأما الثانية فكانت دونها ولكن أشدَّ منها وتأثَّر منها بعض القِلاع فأوّلها فقلعة حماه مع إتقانها وعمارتها وبارين مع اكتنازها ولطافتها، وبعلبك مع قوتها ووثاقتها، ولم يرد عن البلاد الشاسعة والقلاع النازحة إلى الآن ما أذكره.
ثم حدث في يوم الثلاثاء السابع والعشرين منه عند صلاة الظهر زلزلة استوى في عِلمها اليقظان والنائم، وتزعزع لها القاعدُ والقائم، ثم حدثت في هذا اليوم أيضا وقت صلاة العصر وصل الخبر من دمشق بأنَّ الزلزلة أفسدت فيها منارة الجامع الشرقية وأكثر الطوسة والبيمارستان جميعه وعدة مساكن تساقطت على أهلها وهلكوا.
[نسخة الكتاب الوارد من دمشق]
المملوك ينهي حدوث زلزلة ليلة الاثنين سادس وعشرين شعبان وقت انفجار الفجر وأقامت مدة، قال بعض الأصحاب: أنها مقدار ما قَرأ سورة الكهف، وذكر بعض المشايخ بدمشق أنه لم يشاهد مثلها فيما تقدّم، وممّا أثرت في البلد سقوط ست عشرة شرفة من الجامع وإحدى المآذن وتشقق أخرى وفيه الصاحي يعني النسر وانخساف الكلاسة ومات فيها رجلان ورجلٌ آخر على باب جيرون وتشقق بالجامع مواضعُ كثيرة وسقط بالبلد عدة دور.
وذكر عن بلاد المسلمين أنّ بانياس سقط بعضها وصفد كذلك ولم يبقَ بها إلّا مَن هلك سوى ولد صاحبها وكذلك تِبنين ونابلس لم يبق لها جدار قائم سوى حارة السمرة ويذكر أن القدر سالم والحمد لله.
وأما بيت جن فلم يبق منه إلّا الأساس والجدران وقد أتى عليها الخسف وكذلك أكثر بلاد حوران غارت لا يعرف لبلد منها موضع يقال فيه هذه القرية الفلانية، ويقال أن عكله سقط أكثرها وصدر ثلثها وغرفة خسف بها وكذلك صافينا،