العرب بلسانها وفطرتها تعرف معنى الرحمة، وتصف بها الخالق عزَّ وجلَّ مع علمها بأنه سبحانه ليس من جنس البشر ولا غيرهم من الخلق. وجاء الكتاب والسنة مملوئين بوصف الرب تعالى بالرحمة. وجاء أول كتابه: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (١) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}. وسمَّى نفسه: الرحمن، الرحيم، الرؤوف، أرحم الراحمين.
ولم يشتبه معنى ذلك على أحد من العرب، ولا شكَّ فيه أو تأوَّله أحد من الصحابة والتابعين، فثبت أنَّ وصفَ الله تبارك وتعالى بالرحمة على ما يفهمه الناس بفِطَرهم حتى لا يجوز أن يرتاب فيه مؤمن بالله وكتبه ورسوله.
ولكن كثيرًا من الناس أبوا ذلك، وقالوا:"الرحمة" لغةً: رقَّة القلب، كما فسَّرها بذلك أهل اللغة، وهذا مستحيل في حقِّ الله تبارك وتعالى. والمتكلمون يعرِّفونها تعريفًا يُعلم منه أنها مستحيلة في حق الله تبارك وتعالى، فلابد من تأويل الرحمة إذا وُصِف بها الرب عزَّ وجلَّ بالإحسان أو إرادته.
فيقال لهم: أما تفسيرها برقة القلب فهو تفسير غير محقَّق، وإنما رقة القلب كناية عن الرحمة. وإنما فسَّرها بذلك المتكلِّفون من أهل اللغة وغيرهم، فإنَّ معنى الرحمة أظهر من أن يحتاج إلى تفسير. ولذلك لم يتعرَّضْ لها الأوائل كابن جرير وغيره. وهذه الألفاظ الواضحة المعنى إذا تكلَّف الإنسان تفسيرَها وقع غالبًا في التخليط؛ على أننا نعلم أنَّ أهلَ اللغة ولاسيما المتأخرين منهم يتسامحون كثيرًا في تفسير الألفاظ.