الكثيرة في أرباض المدن روائح قتالة، تجتاح الناس وتحصدهم. وكانت البيوت في باريس ولندن تُبنى من الخشب والطين المعجون بالقش والقصب (كبيوت القرى عندنا منذ نصف قرن) ولم يكن فيها منافذ ولا غُرف مدففة، وكانت البسط مجهولة عندهم، لا بساط لهم غير القش ينتشرونه على الأرض، ولم يكونوا يعرفون النظافة، ويلقون بأحشاء الحيوانات وأقذار المطابخ أمام بيوتهم، فتتصاعد منها روائح مزعجة، وكانت الأسرة الواحدة تنام في حجرة واحدة تضم الرجال والنساء والأطفال، وكثيراً ما كانوا يؤون معهم الحيوانات الداجنة، وكان السرير عندهم عبارة عن كيس من القش فوقه كيس من الصوف، يُجعل مخدة أو وسادة، ولم يكن للشوارع مجارٍ ولا بلاط ولا مصابيح، ولم تكن أكبر مدينة في أوروبا تضم أكثر من خمسة وعشرين ألفاً.
هكذا كان الغرب في القرون الوسطى حتى القرن الحادي عشر فما بعده، باعتراف مؤرخيهم أنفسهم، فلننتقل سريعاً - قبل أن ننسى هذه الصورة - إلى الشرق، إلى حيث المدن والعواصم كبغداد ودمشق وقرطبة وغرناطة وإشبيلية .. لنرى كيف كانت هذه المدن وكيف كانت حضارتنا.