الحمد لله رب العالمين وصلى الله على باني أنبل حضارة عرفها التاريخ سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه الذين بنوا أصرح تلك الحضارة الشامخة بدمائهم وجهودهم فكان لهم الفضل على كل من نَعِمَ بخيراتها إلى يوم الدين.
وبعد فموضوع هذا الكتاب هو أحاديث أذعتها من محطة إذاعة دمشق في الفترة الواقعة بين ٢٠ من المحرم ١٣٧٥هالموافق ٨ من أيلول (سبتمبر) ١٩٥٥م عرضت فيها نماذج من الجوانب الرائعة في حضارتنا، وهي جوانب لا تزال تأخذ بألباب كل باحث منصف، ولم أتقصّ كل مظاهر الروعة في حضارتنا ولا قصدت تحليلها علمياً، لأنني كنت أتحدث إلى جماهير المستمعين ممن يتفاوتون في المستوى الفكري والثقافي، وكان يهمني أن يصغى إليها أولئك الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، من صفوة شبابنا ورجال الفكر المؤمن بكرامتنا على الله وعلى التاريخ، ولم يتسع لي الوقت لمتابعة هذه الأحاديث، إذ كنت أستعد للسفر في رحلة علمية إلى ديار الغرب تمت عام ١٩٥٦م، وقد كنت أود أن أتحدث عن روائع كثيرة، منها تلك النماذج الإنسانية للروحانية الإيجابية في تاريخ حضارتنا، ممن كانوا على قدر كبير من الإيمان بالله، والاتباع للحق، والسمو في النفس، والإشراق في الروح، والجمال في الخلق، والرحمة للناس، والعدل في الحكم، هذا مع مساهمتهم في صميم الحضارة ووجودهم في صميم الحياة، سواء كانوا ملوكاً أم علماء، أو زهاداً، أم فلاسفة، أم قواداً، أم حكاماً، أم تجاراً، رجالاً ونساءً، شيوخاً وشباباً، أغنياء وفقراء، إنها نماذج للكمال الإنساني الذي لم يكن يعيش في خيال الفلاسفة والحكماء، بل كان يعيش على ظهر الأرض مع أهل الأرض.
هذه الروحانية الإيجابية بأمثلتها الرائعة هي مما تفردت به حضارتنا عن سائر الحضارات قديمها وحديثها، فلقد عرف التاريخ رجالاً روحانيين في الأمم المختلفة وخاصة في أمم الشرق الأقصى، ويعيش اليوم أناس تغلب عليهم النزعة الروحية الصافية، ولكن هؤلاء وأولئك كانوا سلبيين مع الحضارة، مترفعين عن المساهمة فيها، يعيشون في الأديرة ورؤوس الجبال، أو في المغاور والصحارى، أما نماذجنا الروحية في تاريخ حضارتنا فقد كانوا يخوضون معركة بناء الحياة بكل ما تتطلبه المعركة من عمل وجهد وتضحية وفداء، وهذا هو سر الروعة في هذه النماذج الروحية العجيبة في تاريخ الحضارات.
والقصد اليوم من نشر هذه الأحاديث أن نلفت الأنظار إلى هذه الروائع كدليل على استطاعتنا بناء حضارة أكمل وأسمى من هذه الحضارة، وأن نُذكر الجيل الجديد من أبناء أمتنا بواجبهم في بناء حضارة إنسانية كريمة كما بنى آباؤهم أمثالها، وهذا أنسب الأوقات لمثل هذا التذكير، فأمتنا تدخل الآن باب التاريخ من جديد دخولاً كريماً فيه كل تحفز وانطلاق لبناء مستقبل أفضل وأكمل، وفي أمتنا بقايا من سجايا الآباء والأجداد فإذا سمعت حديث أمجادهم وآثارهم وحضارتهم هزّها ذلك هزاً عنيفاً ودفعها إلى العمل دفعاً حثيثاً.
فلا تُسمعوه ما أقول فإنه شجاع متى يُذكر له الطعن يشتق
ولسنا نقصد من عرض هذه الروائع الادعاء بأن كل ما في حضارتنا جميل ومشرق، فليس في التاريخ حضارة ليست لها هفوات، وإنما القصد أيضاً أن نثبت أن الجوانب الإنسانية الخالدة في حضارتنا أقوى وأجمل، وأن نرد بذلك على افتراء الذين يزعمون لحضارتنا كل عيب ونقيصه، ويتعمدون أن يحذفوها من قائمة الحضارات الأصلية، وأن نحبط بذلك كيد الذين يعملون على أن يصرفوا أنظار جيلنا الحديث عن روائع آثارنا الحضارية، ليجذبوهم إلى حضارة تكشفت مقاتلها للناس، وإلى تاريخ أمم إن كانت لها صفحة واحدة من الفضائل، فإن لها آلاف الصفحات من النقائص والرذائل، وهذا هو هدف الاستعمار الذي يسعى إليه جاهداً، وذلك هو صنيع أذنابه ودعاته الذين ما برحوا على تمجيد حضارته عاكفين.
وإذا كنت قد عرضت في هذا الكتاب (نماذج) من روائع حضارتنا فإني لأرجو أن يتم الدارسون لتاريخ حضارتنا ما بدأته من عرض هذه الروائع، بشكل أتم وبحث أوفى وبيان أبلغ وأنصع، لإعطاء جيلنا الحاضر صورة حقيقية كاملة الروعة عن هذه الحضارة التي كانت تشع النور وتبعث الحياة في القرون الوسطى، فلا حاضر لأمة تجهل ماضيها، ولا مستقبل لأمة تنكر خصائصها وفضائلها، وهي مما تتصل بالحضارة بأوفى سبب وأقوى نسب، وإذا كان الوقوف على الماضي للبكاء عليه والنحيب، هو شغل الكسالى العاطلين، فإن تجاهله وازدراءه مع ما يفيض به من خير واسع ونور رحيب، هو شأن الحاقدين أو الجاهلين. ومن الخير أن نستفيد من كنوزنا في بناء نهضتنا العتيدة، لتكون النهضة مأمونة العواقب، غنية بما يمد لها من أسباب النجاح والبقاء، واضحة الملامح فيما تهدف إليه من كرامة وهناء، متصلة أمجادها بأمجاد الماضي، لتتصل أمجاد المستقبل بأمجادها، فيستمر الموكب، وتنسجم الحلقة ويكتمل البناء.