الغموض الذي أحاطه به ذلك الحضور، وتتبدد معه تلك اللعبة البارعة التي جرت في سني الثورة.
حينئذ يمكننا أن نرى الانشقاق الذي أحدثته ازدواجية اللغة أكثر عمقاً، إذ أنه يتناول القمة والقاعدة.
فالبلاد لم تعد تحتوي نخبتين؛ وإنما مجتمعين متراكبين: أحدهما يمثل البلاد في وجهها التقليدي والتاريخي، والثاني يريد صنع تاريخها ابتداءً من الصفر.
فالأفكار المطبوعة للأولين والأفكار الموضوعة للآخرين؛ لا تستطيع التعايش في عالمٍ ثقافيٍ واحد.
فالمجتمعان يتحدثان بلغتين مختلفتين.
فما كان يقال عبر الراديو والصحافة وحق في بعض الكتب المدرسية إذا كان في استطاعته أن يعبر عن الأفكار الموضوعة لأحد المجتمعين فإنه ليس لها أي معنى بالنسبة للأفكار المطبوعة عند المجتمع الآخر.
إننا لا ندرس أسباب الظاهرة، فأسبابها تتصل من قريبٍ أو بعيد بحقل الصراع الفكري (١)، إنما نحن هنا نهتم فقط بنتائجها.
ففي جزائر ما قبل الثورة التي لم تكن تجهل هذه الظاهرة (إذ كان صوت الإصلاح يفضحها)؛ فقد كانت هذه النتائج مع ذلك مقنعة بعض الشيء بظل الاستعمار، وبالوحدة المقدسة للبلد الذي كان يبدي ردة فعل جماعية حول هذه النقطة كما حول سواها.
لكنه ما إن مرت السنوات الأولى للثورة حتى تجلت الظاهرة في وجه
(١) أفراد المؤلف دراسة خاصة بعنوان "الصراع الفكري في البلاد المستعمرة".