وفي العمود الآخر نجد الأفكار الموضوعة لا تعبر عن شيء، كأسطوانة لم تحتفظ بأثر سوى أنغامٍ انفصلت عن أفكارها الأساسية التي بقيت على أسطوانة عالم ثقافي آخر.
وفي هذا الجانب فإن الأفكار الموضوعة تمثل مادة ثقافية: هي أيضاً أكثر غموضاً، وعاجزة عن توفير طرائق عملية فعالة.
فمن ناحية المجتمع الأول يغدو حدْسُنا في سبر الواقع مجرد ومضةٍ؛ لا تلبث أن تختفي قبل أن تجد ترجمتها في مخطط.
ومن ناحية المجتمع الثاني نجد فكرةً تخلط بين الحركة الوجودية التي تأتي في أعقاب حضارة، وبين الجهد الفكري الذي يحدّد نقطة انطلاق حضارة.
وإذا تابعنا المقارنة نجد في جهة العمود الأول الشكل الشخصي والأدبي، وفي جهة العمود الثاني الشكل الموضوعي المزيف والعلمي المزيف.
ثم نجد في العمود الأول مجتمعا مخدراً يفرض عاداته وأفكاره المسبقة وخرافاته كتقاليد أصيلة، وفي المقابل نجد مجتمعاً يريد أن يكون ثورياً، يثور في الواقع ليس على القيم الباطلة بل على القيم الأكثر أصالة.
نجد في جهة الفكرة التي فقدت إشعاعها الاجتماعي، وفي الجهة المقابلة الفكرة ذات الإشعاع القاتل.
في جهةٍ الركود والسكون، وفي الأخرى الديناميّة المزيّفة والفوضى الصارخة.
وهكذا فميزانية ازدواج اللغة؛ حتى منها المبسطة أكثر مما ينبغي لا تقف عند هذا الحد، بل إنها تتعدى إلى إطار الجهود الخلاقة الجادة.