نلاحظ إضافة إلى ذلك أنه في هذا المستوى من مرحلة ما قبل التحضر؛ فإنّ عالم الأشياء يكون هو نفسه شديد الفقر وتكون الأشياء فيه بدائيَّة: كالسيف، والرمح، أو الوتد، والكنانة، والقوس، والسهام، والجمل، والحصان، والسرج، دون ركاب، أو مزود بسندٍ خشبي بسيط (هذا الركاب الحديدي سوف يخترعه المهلَّب بن أبي صُفرة فيما بعد) والخيمة، والأدوات المنزلية الهزيلة المقرونة بحياة البداوة.
وعلى كل فإن (الشيء) يسترد سيطرته على الإنسان في مجتمع ما بعد التحضر، حتى يتمتع هذه المرة (شأنه شأن كل مجتمعٍ استهلاكيٍّ) بعالم مثقل بأشياء، بيد أنها أشياء خامدة وخالية من الفعاليّة الاجتماعيّة.
ومهما يكن من أمر فإنَّ عالم الأشخاص في المجتمع الجاهليِّ قد انحصر في حجم القبيلة، فيما عالم أفكار هـ قد تمثل بوضوحٍ في تلك القصائد المتألقة الشهيرة بالمعلقات، وهو بالإجمال - شأن عالم أشخاصه- عالمٌ محدود يستقي منه الشاعر الجاهلي أبياته البراقة ليشيد بمجد قبيلته وانتصارها في أحد الفصول الملحميَّة التي حفظتها ذاكرة التاريخ تحت اسم (أيّام العرب)، ويتغنى بذكرى حبيبته، أو يبكي كالحسناء، بطلاً هوى، أو يسعى لتخليد اسمٍ كاسم حاتم الطائي لجوده وحسن ضيافته.
هكذا كان وجه ذلك المجتمع الجاهلي المنغلق على نفسه والذي كانت تتلاشى على أرباضه حركات المد والجزر التاريخية للأمم العظيمة التي جاورته: الامبراطورية البيزنطية، والامبراطورية الفارسية، ومملكة الحبشة في الجنوب.
وفجأةً أضاءت فكرةٌ في غار، غار حراء، حيث مُنْعَنرلٌ يقوم فيه متأملاً. وحمل وميضها رسالةٌ بدأت بكلمةِ (اقرأ).
مزقت هذه الكلمة ظلمات الجاهلية، وقضت على عزلة المجتمع الجاهليِّ.