أما أولهما: فهو ذو طابع تاريخي، وهو ناتج عن تأثير القوى الداخلية التي تظهر في صورة فعل ورد فعل للاستعمار ولقابليته، وقد درسنا فيما مضى عناصر هذا الاتجاه، وهي التي تتمثل في: حركة الإصلاح، والحركة الحديثة، وهما اللتان تخلعان على العالم الإسلامي صورته الحديثة.
وأما ثانيهما: فمع أنه لا يمكن فصله عن التطور التاريخي، فإنه يتمثل في صورة جد مختلفة، تعود هذه المرة إلى الظواهر الكبرى لانتقال الحضارة في مستواها العالمي: أعني أنه يتصل بانتقال مركز الجاذبية من حوض البحر الأبيض المتوسط إلى آسيا.
ولا ريب في أنه يمكننا أن نعد انتهاء تركز هذه الجاذبية في الشرق، إحدى الظواهر الجوهرية في السنوات الخمسين الأخيرة، لقد انتهى تركّز العالم على شواطئ البحر الأبيض، وكان من أثر الحربين العالميتين أن اتخذ العالم شكلاً مخروطياً ذا قطبين: أحدهما في الشرق والآخر في الغرب.
وكان من نتائج هذه الظاهرة العالمية أن أصبح العالم الإسلامي يخضع لجاذبية جاكرتا، كما يخضع لجاذبية القاهرة أو دمشق (١)، وهذا الانتقال إلى مرحلة آسيوية، لا بد أن يُحدث نتائج نفسية وثقافية وأخلاقية واجتماعية وسياسية، سيكون لها أن تتحكم في حركته وفي مستقبله، بل في تشكيل (الإرادة الجماعية) لهذا العالم أولاً وقبل كل شيء.
فلقد ظلت هذه الإرادة حتى الآن غامضة، منتشرة في محيط من العادات
(١) كان هذا رأي المؤلف عام ١٩٤٩، حينما كانت الدول العربية بعضها مستعمَر، والآخر تحت رقابة الاستعمار- باستثناء سورية-. أما الآن وبعد هذه السنوات العشر الأخيرة، فإنه قد لاحظ تطورات في أوضاع العالم العربي، من الضروري مراعاتها لإصدار حكم جديد في الموضوع، ومن ظواهر ذلك اجتماع المؤتمر الافريقي الآسيوي في القاهرة، ولعل في هذا تجاوباً مع الرأي الذي ذهب إليه الأستاذ محمد المبارك في تقديمه للكتاب.