أيضاً إلى اكتشاف أمريكا، وهنا نشهد انفصالاً عميقاً بين أوربا التي صارت صاحبة الكلمة العليا وبين بقية الإنسانية، وهو انفصال يفسر لنا سياسة العالم منذ أربعة قرون، كما يفسر لنا الاختلال الراهن في أوضاعه السياسية.
ومهما يكن من شيء، فإن هذا المجتمع الذي طبع بعبقرية الأرض في صميمه، والذي انعدم فيه تقريباً تصور العلاقات البشرية، هذا المجتمع هو الذي اكتشف العالم الإسلامي حوالي نهاية القرن الثامن عشر.
لم يكن الفرد في ذلك العالم الإسلامي يطلب رزقه من الأرض، إذ كانت فقيرة عن أن تمده به، بل كان يطلبه من الحيوان، فهو راع مترحل أو محارب، ولم يكن ممكناً تحديد البقعة التي يعيش فيها، أو تحديد (مجاله الحيوي)، إلا بتحديد أقرب منطقة من مسكنه، نزل بها المطر لآخر مرة. وكان مسكنه ذاته متنقلا بحكم الضرورة، وبذلك لم تكن قطع الأثاث ضرورية له، إذ لماذا يستقر في أرض لا تمده بحاجته من الزاد؟ ..
وما كان لإنسان يعيش حياته متنقلا من نجد إلى سهل، ومن ربوة إلى واد، أن يمارس نشاطاً منتظماً، وعلى الرغم من أنه كان أحياناً يقوم بجهد مضنٍ، تجشمه إياه حرفته بوصفه راعياً أو مغيراً، فقد كان يجهل تماماً العمل المنظم اليومي، الذي يتصل بالأرض وأعبائها طوال الفصول.
وهو يكتفي أيضاً بما تمده به الشمس من حرارة تدفئة، ولذلك لم يستخدم النار إلا كشيء ثانوي في حياته، زد على ذلك أن هذه الحياة السائحة التائهة لا تفرض علاقات جوار منظمة، لانعدام الملكية العقارية أي إن غريزة التجمع لديه لم تنم إلا قليلا، فهو لم يسع إلى الاندماج في نظام اجتماعي؛ لأن هذه العلاقات لم تكن لتؤتيه مطعمه ومشربه. والقبيلة التي ينتسب إليها لم تكن نظاماً معيناً ذا وشائج اجتماعية، بل كانت قائمة على أسباب حيوية، أما علاقات الفرد خارج القبيلة، وبعبارة أخرى علاقاته الاجتماعية، فقد كانت منعدمة.