ذلك عالم غاية في الانقسام، متحلل إلى أفراد، عالم ذو فضائل طردية تشع خارج نطاقه، فعلى الرغم من أنه كان يجهل التعاون جهله بفاعلية المادة، فقد كان مضيافاً يتعشق الكرم، ويهيم بالفخر وبالشعر وبالفروسية. هذا التحرك الدائب هو الذي يفسر لنا السرعة الخارقة التي امتاز بها الزحف الإسلامي، على الرغم من أن بعض المؤرخين حاولوا عبثاً أن يعللوه بأسباب خارجية.
وعلى هذا المنوال جاء الإسلام لينسج حضارته العظيمة حين وهب للعالم تماسكاً وروحاً جماعياً، خطّا له اتجاهه التاريخي بعد أن كانت تسوده الأهواء الفردية؛ لقد خلق القرآن من البدوي إنساناً متحضراً، يشهد بحضارته ما خلف لنا من علم زراعي ناضج في إسبانيا، وفي جنوب فرنسا.
واستقرار الإنسان على الأرض كان له نتيجته السريعة، فنشأ العلم والفن، وترعرعا في مجتمع منظم لم يعد الفرد يخضع فيه لمزاجه المتقلب، بل لنظم وقوانين.
حتى إذا كان القرن الثامن عشر، كان هذا العالم قد أتم منذ بعيد دورة حضارته، فإذا الفرد قد انتكس مرة أخرى إلى حياة يسرها له مجتمع متحلل مشلول النشاط، فيما عدا بعض البلدان التي ظلت محتفظة برمق الحضارة، كفاس والقيروان ودمشق، وهي بقايا مهيبة تعد الشاهد الوحيد على ماض ضائع؛ لأن إنسان ما بعد الموحدين قد آثر العودة إلى حياة أسلافه البدو، على أن يركن إلى حياة متحضرة.
ولو قدر للمهندس أو الفنان الأوربي أن يشهد اليوم نهاية دورة حضارته، فسيعود حتماً إلى سابق مهنته بستانياً أو مزارعاً، فهكذا عاد العالم الإسلامي إلى حالة اجتماعية قبلية مترحلة، عندما اكتشفه الغرب منذ قرن أو أكثر.
وليس يغيب عن بالنا، أن أوربا التي اعتقدت أن العناية قد اختارتها