تلك أمثلة فجة بسيطة لا تعطينا سوى فكرة مبهمة شديدة الإبهام عن الفوضى، ففي كل مجتمع ناشئ متهيئ للنهضة عناصر تقليدية إلى جانب العناصر الحديثة، وهي عموماً مستعارة من مجتمعات سابقة في مضمار الحضارة، فيبذل المجتمع الناشئ في استعارتها جهداً في التحليل والتكييف، يقتضي منه في الواقع جهداً في الإبداع والتركيب. فهضم تلك العناصر وتمثلها يقتضي تمييزاً دقيقاً، وفكراً ناقداً يقظاً، يحدد الشروط التي يجب توافرها في الاستعارات الضرورية؛ أعني شروط توافقها، ونفعها، ولياقتها.
لقد وجد المجتمع الإسلامي الأول نفسه مرات كثيرة في مواجهة مشكلات من هذا النوع، فحلها في كل مرة بطريقة واعية موفقة، ولا سيما حين حاول اختيار طريقة الدعوة إلى الصلاة، ومن قبل واجه المجتمع المسيحي هذه (الحاجة)، فاختار صوت الأجراس للنداء للصلاة، فكان من الممكن إذن أن يقبس المجتمع الإسلامي هذه الوسيلة ليحل مشكلته، ولكن النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحابته قد اختاروا بعد فكرة وتأمل طريقة أصيلة في النداء هي: الصوت الإنساني، فنشأت حينئذٍ وظيفة المؤذن، وبذلك تحاشوا مشكلة استيراد الأجراس، التي لم تكن تصنع في مكة أو المدينة، بل لم يكن ممكناً صُنعها.
فنحن هنا أمام مجتمع جديد يقبس بصورة ما (حاجة) من مجتمع منظم فعلاً، ولكنه يبدع (الوسيلة) التي تشبع حاجته الجديدة.
وهناك عادات وتقاليد كثيرة لم يأخذ بها المجتمع الإسلامي الأول، إلا بعد اختبار متعمَّد، واختيار بين وسيلة وأخرى، وبين الطرق والأفكار المختلفة.
بذلك يدخل الشيء المستعار بصورة طبيعية إلى الحياة الإسلامية، فيندمج فيها لأنه يحقق غاياتها، ويتفق مع إمكانياتها.
ولنأخذ على ذلك مثالاً آخر: فإن المنبر لم يكن سوى تكييف لشكل كرسي