المدينة قد أسهموا مع تطور الحياة في تحويل هذه الجنائن إلى أرض موات، قسمت فيما بعد إلى قطع معدة للبناء عند ضاحيتي باب زعرور وباب الزواتين.
أما أنا فكانت لي أماكن مفضَّلة وكذلك أيام مفضلة، فكان يطيب لي أن أسطو على شيء من الأثمار بعد ظهر كل أربعاء. ففي هذا اليوم بالذات كان معلم المدرسة- ولم أكن بعد قد دخلت المدرسة الفرنسية- يصرفنا قبل موعد الانصراف، بعد أن يكون قد حصل من كل طفل على قطعة نقدية من فئة القرشين، وهذا ما كان يوفر لي الوقت اللازم للسطو على البساتين.
في تلك الساعة من بعد الظهيرة كانت الشمس عادة تلف المدينة بأشعة ذهبية رائعة، مما كان يجعلني أجد متعة كبرى في اللعب على أرصفة شارع قسنطينة أو في ساحة (كارنو Carnot) حيث أقيم كشك للموسيقا، اعتاد الفرنسيون أن يرقصوا على أنغامه في ليالي الرابع عشر من تموز. ولا أزال أذكر تلك الأمسية من بعد ظهر أربعاء ركلني فيها أحد الأوربيين لأنني دست على قدمه بينما كنت ألعب على الرصيف. وكان اللعب قرب الأسوار بالذات يطربني إلى حد كبير، إذ كان يجعلني أشعر وكأنني أنتقل إلى عالم آخر.
في زوايا أخرى من المدينة كان يخالجني شيء من الاضطراب، فحين كنت أمر بصحبة أختي الكبيرة أمام الكنيسة كنت أتطلع باستمرار إلى جرسها، إذ كانت تتملكني فكرة لم أبح بها لأحد مطلقاً. كنت أعتقد أن شقيقتي الصغيرة وردة - التي لم أعرفها لأنها توفيت وأنا ما أزال رضيعاً- سجينة داخل الكنيسة كما لو كانت كنزاً سلب من أحد وأخفي في مكان أمين لا تصل إليه يد.
لم تكن الزاوية القادرية بعيدة كثيراً عن منزلنا. وكان العرف آنذاك يقضي في حفلات الزواج والختان، بأن تواكب نوبة الزاوية العريس ليلة زفافه والطفل يوم ختانه. وما إن يصل إلى مسامعي إيقاع الضربات الأولى للنوبة حتى أبادر إلى الخروج، وحين كان يحدث ذلك عند الظهر كنت أعرف أنه