لقد بدأت بحياتي اليومية فرتبتهما في انتظار يوم امتحان الدخول إلى معهد الدراسات الشرقية، أتناول وجبة الغداء قرب محطة (كاديه) للقطار الجوفي في مطعم صغير مع زبائنه العمال، الذين يأتي كل رهط منهم في لباس مهنته على حسب عادة القوم، ليتناولوا قطعة لحم على الطريقة الإنجليزية (بفتيك) يضيف إليها الذوق الفرنسي بعض بطاطس مقلية مع زجاجة نبيذ.
بدأت هكذا في هذا الوسط العمالي، ملاحظاتي عن الحياة الفرنسية، الشيء الذي لم يُتَح لي أثناء إقامتي الخاطفة في صيف ١٩٢٥. إنني آخذ هذه المرة من الوقت ما يكفي للتمعن في الأشياء والتدقيق في تفاصيلها، إذ لم يكن معهد الدراسات الشرقية يتطلب مني أي تحضير.
لقد صفا الجو لاهتماماتي الاستطلاعية وتجولاتي الاكتشافية التي ساقتني ذات يوم إلى متحف الفنون والصناعات، بقرب باب (سان دونيس)، حيث وقفت تلك العشية أفكر لأول مرة في الجوانب التكنولوجية للحضارة، وأنا أشاهد بين روائع المتحف، القاطرة الأولى التي تحركت بالطاقة البخارية والطائرة التي عبر عليها (بليرويو) بحر المانش.
وكنت أحياناً أقضي العشية في الناحية نفسها على سطح مقهى (كل شيء بخير)، أتتبع ببصري المتسكعين الباريسيين التائهين على الرصيف، يودعون جو الصيف في أيامه الأخيرة، وذلك قبل أن يرتدوا معاطفهم ويسرعوا في خطاهم تحت وابل الأمطار المقبلة.
لم أكن بعد أرى الروابط التي تربط هؤلاء القوم بمحيطهم، ولكنني بدأت أشعر عل نحو ما بسعادتهم، أو على الأقل باطمئنانهم، في هذا المحيط الحميم، وأشعر أنني أجني عليه بكل ما تتضمن حياتي من مشكلات خاصة، وما يختلج في نفسي من خواطر لا تمر على بال هؤلاء القوم المتنعمين؛ ولا زلت في تلك الفترة