أتناول وجبات الغداء في المطعم الذي ذكرت، أما العشاء فكنت ألقفه في بيتي أتناول خبزاً وجبناً حرصاً على الاقتصاد.
ولكن تجولاتي اليومية بدأت دائرتها تتسع يوماً فيوماً وبدأت تكتسب جرأة، أتعرض بسببها أحياناً لطوارئ مما يتعرض لها رجل الأرياف الذي يحط رحله بباريس للمرة الأولى.
أتيت ذات صباح لأخذ القطار الجوفي، وأنا لا أدري كيف أسلك طريقي، وأردت أن أتأكد من اتجاه الخط بالنسبة لوجهتي، فسألت السيدة التي تراقب التذاكر عند البويب فأشارت بيدها:
- لا، سيدي، على الرصيف الآخر المقابل.
فاتبع بصري إشارتها الواضحة، ولم يبق علي إذن إلا أن أنزل بين الرصيفين وأن أعبر الخطين المكهربين، ثم أن أصعد من الناحية الأخرى من الرصيف الآخر؛ وربما خطر بذهني في تلك اللحظة أن الباريسيين ليسوا على جانب من المنطق العملي، إذ يفرضون على من يخطئ الاتجاه السليم رياضة بدنية شاقة، إن لم نقل خطرة، ولكن لامجال للتردد فإشارة المراقبة كانت واضحة، فحركت ساقي للتنفيذ وتوجهت إلى حيث أنزل بين الرصيفين، حتى اقتربت من الدرج، وإذا بصرخة تنطلق ورائي:
- احبس (١) يا سيدي!
إن المراقبة لم تترك هذا الرجل الغريب ببزّته المشرقة وشأنه، وربما توسمت في وجهه نوعاً من البراءة تعرف به الغريب، فرجعت نحوها فاستمرت تفسر:
- يا سيدي إن نزلت هكذا بين الرصيفين فإنك ستتعرض إلى تيار ست مئة