واستمر القطار الصغير يدفدف في طريقه، واستمر المنظر يعرض علي لوحاته، تلك اللوحات الخاصة بالجنوب القسنطيني.
ها هي ذي قمة جبل (سيدنا عبد الله) عند أحد منعرجات جبل (حلوفة)، وقد سماها الفرنسيون (قرص السكر) بسبب شكلها الحلزوني، تبرز لي مرة أخرى في إحدى عوداتي.
واستمر القطار يدفدف عبر سهل تبسة حيث لا زال في تلك الساعة بعض الفلاحين يقيمون حصادهم أكواماً صغيرة لينقلوها على ظهر البغال والحمير، بينما كانت المواشي ترعى في الحقول المحصودة، والهدوء يسود والسكينة تخيم على هذا المنظر العتيق.
وكنت في شوق جارف لأرى أمي. فوجدت والدي في انتظاري بالمحطة مع بعض أصدقائه؛ وعندما توجهنا مثل العديدين نحو المدينة- كان بجانبي صهري الذي كان شريكي في الطاحون التي أسسناها بناحية جساس (١)، فبدأ يذكر لي تفاصيل حياته وحياة الأسرة منذ فارقتها، وكانت أفكاري، وصهري يواصل الحديث، كأنها ترقص في أحشائي من الفرح، لأن كل شيء كان بخير والحمد لله.
استطاع صهري بعد نكبتنا الاقتصادية سنة ١٩٣٠، أن يؤمن قوت أطفاله في شغل مع شركة تصدير للحلفاء مقرها بالمدينة، ولعله أراد مزيداً من الضمان لمصير أسرته، فتعلق ببركة شيخه (سيدي التجاني) أكثر مما كان عليه، وبما أنني ازددت أثناء إقامتي بفرنسا تعلقاً بالفكرة الإصلاحية المغايرة تماماً للطرق الصوفية، فقد شعرت ببرودة وفتور بيننا، سيكون لها أثر في علاقاتنا
(١) بالنسبة إلى كل الظروف المتعلقة بالماضي يستطيع القارئ أن يرجع إلى الجزء الأول، كما ننبهه من ناحية أخرى إلى أن بعض الحروف الصوتية نالها في الجزائر من التغيير ما ينالها في غالب البلاد العربية بحيث حرف ج بالنطق المصري يعبر في الحقيقة عن (ق).