لرؤية امرأة عمي بهيجة، والتعرف إلى جدي لأبي الذي كنا نسميه (بابا الخضير)، كما كنت أرغب أيضاً التعرف إلى عمي محمود وإلى عم والدي محمد.
في الواقع منذ أمد بعيدى كنت أتمنى العودة إلى قسنطينة. ومن ثم فكلما مرت العربة تحت شبابيك مدرستي، وكلما تناهى إلى سمعي وقع سوط السائق يهوي على رؤوس خيوله ذات الصفين كنت أتنهد بأسى. لقد كان عجاج غبارها المنبعث وهي تتركه وراءها، في رواحها المتاخر على طريق قسنطينة، وغدوها عندما ألتقي بها وأنا عائد من المدرسة، يسلمني إلى أحلامي، وبصورة عامة لقد ولدت وفي نفسي ذلك المزاج الذي وصفه بدقة مؤلف كتاب (رجال الأسفار).
في ذلك المساء خامرتني نشوة الانتصار وأنا في ذلك المقعد الذي هو خلف سائق العربة. وعندما مرت العربة أمام مدرستي تحت نوافذ صفي، كان لدي شعور بالنصر والتحرر. كان النهار قد قارب نهايته حينما توقفت العربة في استراحتها الأولى في (يوكس)، فهناك بدلت جيادها وقد حصل هذا عدة مرات أثناء الليل في المحطات التالية. وفي الفجر وصلنا إلى عين البيضاء، وهناك كان علينا أن ننتظر قطار قسنطينة الذي سوف يسافر بعد الظهر. لقد قضينا الليل في غرفة حمام مغربي. والقليل من الأهالي كانوا يحجزون غرفة في فندق لأنهم غالباً ما كانوا يطردون. وحملنا القطار من عين البيضاء على خط ضيق في الدرجة الثالثة منه، وكم كان مثيراً في نفسي أن جاوزنا (الخروب) فتراءى لي بريق ينسلّ من الأفق الدامس من الليل؛ لقد لاحت قسنطينة بأضوائها الكهربائية.
خرجنا أنا وأبي سيراً عل أقدامنا من المحطة. وحين وقعت عيني على جسر القنطرة بأنواره الكهربائية بدا لي لأول وهلة كأنه من عمل الجان والعفاريت. ولكن نظرة مني في قنطرة الجسر تاهت في أعماق (وادي الرمل) الداكنة.