للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

لم أكن أعرف كيف أسير لكن دقائق (الشارع الوطني National) الذي مشينا فيه أثارت انتباهي، وكذلك خيول العربات القادمة من المحطة تحمل المسافرين تضرب إيقاعاً بحوافرها على البلاط الصلب للطريق، لقد أسلمتني هذه الضجة في الواقع إلى صورة تختلف عن أختها في تبسة. ففي تبسة الحوافر صامتة لأنها تغرق في الغبار الذي يغطي شوارع المدينة الصغيرة.

ونظرت يميني فبدت لي السلم التي تصعد باتجاه الحي العربي، وكم تمنيت في تلك اللحظة لو أني صعدته ونزلته. ومما لفت نظري ارتفاع الأبنية في هذه المدينة، بينما تقصر عنها أبنية تبسة حتى في الشارع الرئيسي. وكذلك الإضاءة بالكهرباء لم يسبق لي أن شاهدتها.

وباختصار فإنني أتصور أن فلاحاً صغيراً يأتي من الريف إلى باريس في الليل، لم يكن ليختلف انطباعه عما استولى على نفسي في تلك الساعة.

وفجأة رأيت والدي يدخل مقهى عربياً يستعد صاحبه لإغلاقه. لقد كان يشعل نار الوجاق من أجل الصباح التالي. إن رقة الحاشية و (الشاش الأغباني) الذي كان يحيط بوجهه قد أشاعا في نفسي اطمئناناً واستلطافاً، لذلك الرجل العجوز الذي خف لاستقبالنا. لقد كان يدعى سي (بن يمينه)، وبينما كان يتبادل وأبي التحية كنت ألقي نظرة حول الحصر التي تغطي الأرض، وذلك الوجاق الذي صُفَّت حوله بذوق وأناقة فناجين القهوة وأباريقها ذات الأيدي الطويلة.

لقد أودعني والدي ذلك الشيخ ليقودني إلى منزل امرأة عمي بهيجة ثم انصرف. وهكذا أكمل الشيخ إعداد مقهاه للصباح، وأغلق الأبواب ثم سار بي عبر مجاهل شوارع قسنطينة العربية حتى وصلنا. وقبل أن نعبر إلى تلك الدار التي أثارتني باتساع أرجائها ونظافة جدرانها المطلية بالكلس الأبيض كباقي بيوت

<<  <   >  >>