للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

ثمَّ مثل لَهُ بالعبادات الْبَدَنِيَّة الْمَحْضَة، لكنه سرعَان مَا نبه على أَن هَذِه الْعِبَادَات يُمكن تعليلها تعليلاً إجمالياً، وَهُوَ أَنَّهَا تمرن الْعباد على الانقياد لله تَعَالَى وتجديد الْعَهْد بِذكرِهِ مِمَّا ينْتج النَّهْي عَن الْفَحْشَاء وَالْمُنكر ويخفف من المغالاة فِي اتِّبَاع مطَالب الدُّنْيَا وَيذكر بالاستعداد للآخرة ... " قَالَ: "فَهَذِهِ أُمُور كُلية لَا ننكر على الْجُمْلَة أَنَّهَا غَرَض الشَّارِع فِي التَّعَبُّد بالعبادات الْبَدَنِيَّة، وَقد أشعر بذلك بنصوص من الْقُرْآن الْعَظِيم فِي مثل قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} ١٢.

وَقَالَ ابْن الْقيم: "وَبِالْجُمْلَةِ فللشارع فِي أَحْكَام الْعِبَادَات أسرار لَا تهتدي الْعُقُول إِلَى إِدْرَاكهَا على وَجه التَّفْصِيل، وإنْ أدركتْها جملَة"٣.

إِن الْعِبَادَات فِي الْإِسْلَام ليستْ مُجَرّد مظَاهر وشعائر وطقوس يُؤَدِّيهَا الْمُسلم لمُجَرّد أَنَّهَا مَفْرُوضَة عَلَيْهِ من ربه فَحسب، فَلَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا الإذعان والامتثال لأوامر الله وَإِظْهَار الْعُبُودِيَّة لَهُ، ولاشك أَن هَذَا مَطْلُوب ومقصود على الْوَجْه الْأَكْمَل، وَلَكِن الْعِبَادَات - إِلَى جَانب هَذَا - تنطوي على غايات نبيلة وَحكم جليلة إِذا قَامَ العَبْد بهَا على وَجههَا خَالِصَة لله تَعَالَى اجتنى مِنْهَا ثَمَرَات كَرِيمَة وفوائد عَظِيمَة من تَطْهِير النَّفس وتزكيتها وطهارة الْقلب وسلامته مِمَّا ران عَلَيْهِ وتنوير البصيرة وانشراح الصَّدْر واطمئنان الْقلب، ومحبة الله وَرضَاهُ ومحبة عباد الله الصَّالِحين، وَصَلَاح الدُّنْيَا وفلاح الْآخِرَة إِلَى غير ذَلِك من الْأَسْرَار والأنوار وَالْخَيْر الْكثير والنفع الوفير مَالا يَأْتِي عَلَيْهِ حصر، فَيُصْبِح بعد ذَلِك عبدا مثالياً ربانياً فِي أنوار مشرقة بعد أَن كَانَ تائهاً فِي ظلمات حالكة كَمَا قَالَ


١ - سُورَة العنكبوت آيَة: ٤٥.
٢ - الْبُرْهَان ٢ / ٩٥٨.
٣ - إِعْلَام الموقعين ٢ / ٨٨.

<<  <   >  >>