للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

ارتحل في طلب العلم شابا ما أحكمت يده عقد الإزار، ولا سما فأدرك خمسة الأشبار، ثم آب وقد حمد إيابه، وأجزل ثوابه، ونفع به في طلبته وصحابه، فهو اليوم رحلة الزمان وخليفة ابن النعمان والإمام الذي علقت به الأماني فأصبحت في الأمان، مجالسه زينها الصدق وحسنها الحق، وأحبها الخالق والخلق، فنورها يعلو على النسرين، ويرغب في خير الدارين، وان مشائخه لتزيد على الألفين، حقا أقول أنه الآية الله في الأرض، وما فهمت من محاسنه إلا ببعض البعض، فالغلو فيه القليل، والخلو منه ساعة خمول، فما انتجاع الخمائل في أبرديه، ولا اجتماع الفضائل إلا من برديه ولا العلياء إلا في مخبره ومنظره، ولا الدنيا إلا بين مبدأه ومحتضره، ولا العز إلا التعلق بأذياله، ولا الأمن إلا التفئ بظلاله، وردت ذلك الثغر لا رشف ريقه، وأكشف فريقه، وقد رافقني البين، وفارقني الغبن، وأصابتني العين، فتلقاني رضي الله عنه بمحيا حيى، وصافحني براحة أريحى، وعاملني ببرصفى، وبشر حفى:

فبشرت آمالي بشخص هو الورى ... ودار هي الدنيا، ويوم هو الدهر

ومكثت زمانا تحت أفضاله، وواسع نواله، فلما دخل شهر رمضان ضاعفر في المعونة وخفف على المئونة، وأفاض على وعلى من لدي عوارفه فيضا، وأوجب ذلك على نفسه الكريمة سنة وفرضا، حتى رحلت مسافرا من عنده، وحينئذ بنت برغم مكارمه عن رفده، وقد تحصل لي عليه ما بين قراءة وسماع ما ينيف على المائة تأليف جلها بل كلها منقولة بخط يدي من أصوله لعتيقة مصححة عليه على ما تقتضيه إمامته في تلك الطريقة، وأجازني غير ما مرة وكتب لي في غير ما موضع بخطه، ومن جملة ما سمعته عليه جميع القصيدة اللامية الشاطبية المسماة بحرز الأماني وحدثني بها عن الشيخ الإمام أبي عبد الله محمد بن احمد بن عبد الرحمن الكندي سماعا من لفظه بسماعه من الشيخ أبي الحسن علي بن شجاع بن سالم العباس الهاشمي حدثه بها عن ناظمها أبي القاسم الشاطبي سماعا وقراءة، ومما سمعت عليه بلفظه جميع الأربعين حديثا تخريج قاضي القضاة تقي الدين أبو الفتح محمد المشتهر بابن دقيق العيد. بإجازته منه إن لم تكن سماعا وجميع الأربعين البلدانية السلفية وحديث الرحمة المسلسل بشرطه، وجميع مسند حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، وجميع العمدة في الحديث تأليف أبي محمد عبد الغني بن سرور المقدسي رحمه الله وجميع الأربعين حديثاً على مذهب المحققين من المتصوفة جمع الحافظ أبي نعيم أحمد بن عبد الله بن أحمد بن إسحاق رحمه الله ثم قرأت جميعها عليه بلفظي مرة ثانية قراءة تصحيح وكذلك قرأت عليه بلفظي مرتين جميع الأربعين السباعيات المخرجة من سماع الشيخ رضي الدين أبي المعالي عبد المنعم ابن عبد الله الفراوي النيسابوري وقرأت عليه بلفظي مرتين ثنتين كذلك جميع ثلاثيات الإمام أبي عبد الله البخاري رضي الله عنه وقرأها هو وسمعها على جماعة منهم الشريف تاج الدين أبو الحسين علي بن احمد الحسيني القرافي قرأها عليه بلفظه وقد تقدم سنده فيها آنفا وقرأت وسمعت عليه غير ذلك مما قد استوفيته في برنامج روايتي، وأخبرني أبي عبيد الله المهدي كان أديباً شاعراً وجال في البلاد بعد قتل أبيه ودارت عليه صروف الدهر، واضطر إلى الاستجداء بالشعر حتى مدح الوزير ابن عطاف وكيل أبيه بقصيدة منها:

أقول لا مالي ستبلغ أن بدا ... محيا ابن عطاف ونعم المؤمل

فقالت دعوني كل يوم تعلل ... فقلت لها أن لاح يفنى التعلل

فتغافل عنه فكتب إليه:

أيها المكن من قدرته ... لا يراك الله إلا محسنا

إنما المرء بما قدمه ... فتخير بين ذم وثنا

لا تكن بالدهر غرا وإذا ... كنت فانظر فعله في ملكنا

مد كفا نحو كف طالما ... أمطرت منها السحاب الهتنا

أوارحني بجواب مؤيس ... فمطال النفس من شر العنا

<<  <   >  >>