للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

وأخذنا نسير ونمور وننجد بين الأمواج ونغور، ونصبح ونمسي ليس إلا السماء والبحور، إلى أن اشتدت علينا الرياح الغربية وتحكمت فينا المياه البحرية فتقهقرنا بسبب ذلك إلى أن أشرفنا على مرسى طبرق من مراسي برقة المشئومة فدخلناه يوم السبت التاسع لذي قعدة من العام المذكور فنزل به من الأصحاب من قدر الله في سفره من البر نزوله ونظمت في ذلك ساعة وصوله ودخوله:

يا ليلة جمعت بمرسى طبرق ... أجلى صباحك عن نوى وتفرق

ألفت بين مفرق ومجمع ... وجمعت بين مغرب ومشرق

ضحك الفراق لنا وقد عبس الدجا ... فبكيت فيه بدمعي المتدفق

قد مزق الإصباح ثوبك مثل ما ... مزقت ثوب الصبر كل ممزق

ورمى سوادك من بياض صباحه ... بمثال ما صنع الفراق بمفرق

أبدا بحلكته بياضا ناصعا ... فأعاد دهمته شيات الأبلق

وتبسم الزنجي فيه تعجبا ... من قسوة البين الذي لم يرفق

أكثرت يا جفني البكاء لبينهم ... لا تخشى من أقلال دمع أنفق

ولقد رهنت القلب فيهم فانثنوا ... وبقيت رهن صبابة وتشوق

نهضوا وما نفضوا المواثق أن هم ... شرحوا شهور المستهام الموثق

بانوا فيها بان اللوى هل بلغوا ... مني السلام إلى النقاء والأبرق

راحوا فراح تصبري من راحتي ... يا راحتي روحي أمام الأينق

مروا فحلو العيش مر بعدهم ... وحللت حالي مركب أو زورق

وقفوا لتوديعي ففاضت أدمعي ... أسفا وغاضت بالزفير المحرق

ومن العجائب أن دمعي أحمر ... والجفن يسبح في الغدير الأزرق

يا راحلين لأرض أندلس إذا ... جزتم على بان الكثيب المونق

وبدت لكم تلك الربا الخضر التي ... تهدي الشذا من عرفها المستنشق

عوجوا على تلك الديار وقبلوا ... جدرانها بتلطف وتملق

وقفوا هناك على المتيم وقفة ... تذر الهوى في قلب من لم يعشق

وصفوا لذياك الفريق تفرقي ... منكم وتقديري لدمعي المطلق

قولوا تركناه وقد أخذ الهوى ... منه اعتداء أخذ من لم يشفق

وعلى تحول حالتيه فإنه ... باق على حفظ المودة ما بقي

يهوى لقاءكم ويأبى دهره ... وأصدعه الأكباد إن لم نلتق

وأقمنا به ننظر تأتي الريح، ونعاني من أهل برقة ألم الوجد وعظيم التبريح إلى أن أقمنا به مدة، ورأينا الأمر لا يزداد إلا شدة فرفعنا الشراع للرجوع وسرنا ولا كرامة للسلوة ولا للهجوع.

وإذا أتاك من الأمور مقدر ... ففررت منه فنحوه تتوجه

وخرجنا من المرسى المذكورة يوم السبت السادس عشر لذي قعدة المذكور، فنزلنا به للإقامة. وحمدنا الله تعالى على السلامة، ثم حللت من المدينة بالمدرسة السراجية ساكنا وقد نال مني نصب البحر ظاهرا وباطنا، وعدت لعادتي من الاجتماع بالفضلاء، والانتفاع بالعلماء:

كأن لم يكن بين ولم تك فرقة ... إذا كان من بعد الفراق تلاقي

ولما نزلنا بالمدرسة السراجية الحافلة، وجمعت فيها بين الفريضة والنافلة، صادف نزولي بها قدوم مدرسها الأكبر وإمامها الأشهر، الشيخ الفقيه العالم مفتي المسلمين شمس الدين، أبو عبد الله محمد بن الشيخ الفقيه الصالح شرف الدين أبي الروح عيسى بن أبي الحسن علي بن أبي الحسن اسم كنيته ابن أبي العلاء عبد الله الكناني الشافعي الشامي ثم الإسكندري نفع الله تعالى به وافى من سفر كان أبطأ فيه، ثم أسرع به إلى الحظ الذي يقرب الأمل النازح ويدنيه، فحللناها حلول الهائم المجد، في وصل الحبيب المسعد، ومنشدين) ويجمعنا شتى على غير موعد (واستقررت منها بمسكن مجاور لمسكنه، حيث مأوى تدريسه، وخزانة كتبه، فكان فيه جاري بيت بيت، والمهدي لوجاري حتى الخل والزيت، فسقاني حتى أروي كل ظمأ وجواد وأحلني من مبرته وفؤاد، ووالى من إتحافه، وضروب ألطافه، ما حسبتني به مفطوما يعلل على الفطام، ورأيت الأماني مجنوبة إلى في الخطام:

وحسن طعم العيش حتى أعاده ... ألذ من الإغفاء في عقب السهد

<<  <   >  >>