للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

وكنت كثيرا ما أجلسه فأقطف من مؤانسته أعبق نور، وأحالني بمجالسته كجليس القعقاع بن شور، وأنسى في اليوم فعل الأمس، كما أربى على ليلة البدر يوم الشمس، ففي كل يوم أزيد فيه اغتباطا، واستوثق في يدي محبته ارتباطا، وكأني استقبل منه في كل زمن فرد رباطا، ولما حملني من مننه أعظم من جهدي ومن طوقي.

أصبحت كالورقاء في شكره ... لما غدا أنعامه طوقي

إلى ما استدفتدته من الفوائد العلمية، والمسموعات النبوية والدرر الأدبية إذ هو روضة لعلوم العاطرة الريا، الباهرة المحيا، النادرة في هذه الدنيا، ناهيك من رجل هجرت إلى لقائه المواطن، واستنارت له بأنواره المعرفة الظواهر والبواطن، فهو اليوم عمدة الصقع الإسكندري، والمفتي على الإطلاق في مذهب الإمام الشافعي، ومقتدي الفرق في العلم العقلي، ومن لا يختلف اثنان في فضله الفرعي والأصلي، يقول فيختلس العقول ويكتب فيجلب ويخلب، فإن عبر، قلت بالسحر خبر، وعنبر الشجر حبر، حتى إذا تكلم في العلويات والسفليات والعلوم الربانيات، والحكم الأدبيات، والحركات الهندسيات أسمعك رغائب الغرائب، وأطلعك على نجائب العجائب مع ما منحه الله تعالى وخوله، وجبله عليك وركبه فيه من الشجاعة الغريزية والنجدة النفسانية والقوة الجسمانية التي هي مواهب الجلال وكمال خصال الكمال، والفرق بين النساء والرجال، وقد خصه الله تعالى منها بالحظ الأوفر، والنصيب الأكبر، والجزء الذي لو قسم على الأجناد لا غنى عن الدرع والمغفر، يبدو فترى طلعة بدر، وجلالة قدر، وسعة صدر، ونهضة لا مشوبة بأشر، ولا منسوبة لغدر، ثم ينيلك بدائع دانيات القطاف، ويعاطيك أحاديث مستعذبات النطاف، ويهاديك أزاهر من حدائق القراطيس أو من أعطاف القضب اللطاف، فتسيل هذه زلالا، وتطلع هذه من سحائب أنامله هلالا، ومنه تعلمت أحكام الرماية بالقوس العربية، وهو رضي الله عنه محكم لذلك غاية الإحكام ومهتم باكتساب أنواع السلاح غاية الاهتمام، فلو شاء لأخرج من خزائنه الواسعة ما وسع الجمهور من السلاح الموفورة، والعدد المذخورة وآلات الحرب المنيعة المحذورة إلى غيرها من أمهات المجلدات وألوف التآليف وصنوف التصانيف المجموعات المصنفات قرأت وسمعت عليه عدة من تآليفه التي أفاد فيها وأجاد، ونسخت منها ما سئت وبالغت في تصحيح ذلك معه ما استطعت وقرأت سمعت عليه نيفا على الثلاثين تأليفا في فنون شتى تقيدت أسماؤها وأسانيدها في برنامج روايتي، وأجازني وكتب لي الإجازة الحافلة بخطة وأنشدني للملك الأشرف في مملوك له جميل وقعت عليه شمعة فأصابت شاربه فقال فيه بديها:

وذي هيف زارني ليلة ... فأضحى به الهم في معزل

فمالت لتقبيله شمعة ... ولم تخش من ذلك المحفل

فقلت لصحبي وقد حكمت ... صوارم لحظيه في مفتل

أتدرون شمعتنا لم هوت ... لتقبيل هذا الرشا الأكحل

درت أن ريقته شهدة ... فحنت إلى ألفها الأول

وأنشدني لابن سرايا الحلي من أهل العصر في شمع كان يدخل به إلى مجلس صاحب ماردين على أيدي الغلمان الحسان:

أهلا بشهب في سماء المجلس ... هتكت أشعتها حجاب الحندس

زهر إذا أرخى الظلام ستوره ... فعلت بها كصحيفة المتلمس

هيف القدود تريك بهجة منظر ... أبهى لديك من الجواري الكنس

كالقضب إلا إنها لا تنثني ... منها القدود وزهرها لم يلمس

أذكت لحاظ عيونها فكأنها ... زهر تفتق في حديقة نرجس

نابت عن الشمس المنيرة عندما ... حبست وساطع نورها لم يحبس

وإذا تحذرت النجوم رأيتها ... ترعى الصباح بمقلته لم تنعس

وضحت أسرتها وقد عبس الدجا ... وتنفست والصبح لم يتنفس

إن خاطبتها رد لسانها ... همسا كلجلجة للسان الأخرس

وإذا تعودها النسيم ترى لها ... خفقا كقلب الخائف المتوسوس

في طرفها عمش إذا حققته ... لم يبد منها الاسم ما لم يعكس

عجبا لها تبدي لعط لسانها ... بشرا وتحيا عند قطع الأرؤس

رضيت ببذل النفس حين تبوأت ... من حضرة السلطان أشرف مجلس

الصالح الملك الذي أنعامه ... طوق الغنى وطوق جيد المفلس.

شمس حكى الشمس المنيرة باسمه ... وضياء بهجته وبعد الملمس

<<  <   >  >>