للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

ودخلت على الشيخ الأكبر، دوة الدهر ووحيد العصر، أبي حيان محمد بن يوسف بن حيان المتقدم الذكر، منزله من القاهرة المعزية مجددا عهدا ومجردا من فوائد ما لا أجد منه بدا، فقرأت عليه أجزاء عديدة، وأخذت عنه أشياء مفيدة وقد استوفيتها في برنامج روايتي، ومما قرأت ثانيا عليه من نظمه قصيدة طويلة مدح بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأولها:

لا تعذلاه فما ذو الحب المهذول ... العقل مختبل والقلب مبتول

هزت له اسمرا من خط قامتها ... فما انثنى الصب إلا وهو مقتول

وقرأت عليه من نظمه قصيدة بارعة يصف فيها غرناطة وطنه ويبث فيها شوقه وشجنه ويندب معاهده بها ومشاهده، ويذكر مصتدره بينها وموارده، وأولها:

هل تذكرين منازلا بالأحبل ... ومنازها حفت بشطى شنل

ومشاهدا ومعاهدا ومناظرا ... للقاصرات اليعملات الذبل

حيث الرياض تفتحت أزهارها ... فشممت أذكى من أريج المندل

والطير تشدو مفصحات بالغنا ... فوق الغصون الناعمات الميل

فتثير للمشتاق داء كامنا ... وتذيل صائن دمعه المتهلل

وأخذ يصف لي أشواقه إلى الأندلس الكريمة، ويتأوه لذكر عهوده القديمة، وتبع الزفرة بالزفرة، ويصل العبرة بالعبرة ويقول والله لقد كنت ارتحل إليها لو كانت لي طاقة أو قدرة، وأنشدني لنفسه ودموعه تفيض نهرا، وتبل منه صدرا ونحرا، وتسيل على بسيط خدوده فتسلك منها سهلا ووعرا:

يا فرقة أبدلتني بالسرور أسى ... وأسهرت ناظرا قد طالما نعسا

أنى يكون اجتماع بين مفترق ... جسم بمصر وروح حل أندلسا

فبكيت والله لبكائه، ودعا الله في رجوعه إليها فأمنت على دعائه، ثم شهق شهقة حسبت فؤاده بها منفطرا ولم يزل بقية يومه منكسرا.

أن للجنة بالأندلس ... مجتلى عين وريا نفس

فسنا صبحتها من شنب ... ودجا ليلتها من لعس

فإذا ما هبت الريح صبا ... صحت وأشواقي إلى أندلس

ثم خرجنا من مدينة مصر في يوم الأربعاء الموفى عشرين لصفر المذكور فركبنا في بحر النيل العجيب جواري منشئات، عذارى حبشيات وناسكات على الماء ماشيات، تطلعنا على تلك الآيات، وتطالعنا بحسن الآيات وتذكرنا بهذه الأبيات:

نزلنا بمصر وهي أحسن كاعب ... فقيدة مثل زانها كرم الفعل

فلم أر أمضى من حسام خليجها ... يلوح على أفرنده صدأ الصقل

إذا سأل لا بل سل في متهالك ... من الأرض جدب طل فيه دم المحل

غداة جلا تبر الشعاع متونه ... ولا شك أن الماء والنار في النصل

ولا مثل أعطاف الغصون كأنها ... شمائل معشوق تثنى من الدل

ينظم تعويذا لها سبح الدجا ... وينثر إعجابا بها لؤلؤ الطل

ورحنا على البحر وقد سكن هائجه وركن مائجه، وأقبلت الزوارق تهفو بقوادم غربان وتعطو بسوالف غزلان تخالها في سمائه أهله مكسوفة. وتحسبها فوق مائه جريدة دهم مصفوفة. وزورقنا بينها يسرع في اندفاعه. وقد استدرنا تحت ظل شراعه فحسبته خوف العواصف طائرا مد الحنان على بنيه جناحه، وما برحنا نسرع سفرا. ونسير نفرا، ونرتشف من ماء النيل كوثرا، ونتجلى منه حبابه زهرا. ومن جوانبه زهرا. ونتبوأ من جناته منازل فتحت أبوابها فدخلناها زمرا، وأنشدتها حين ودعتها.

وفتحت أبواب السهاد لناظري ... وجعلت ليلى بالنجوم مسمرا

<<  <   >  >>