للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

إلى أن وصلنا إلى) فوهة (ضحوة يوم الجمعة الثاني والعشرين لصفر المذكور وهي بلدة من أحسن بلاد ذلك الساحل مرءى وأخصبها مرعى. وأملحها مرسى. وأمنحها أنسا وأينعها روضا وانفعها أرضا فأممنا بها برهة ثم قطعنا النيل أمامها عشية وسرنا في الخليج راكبين بين جنات معرشات وغير معروشات وبلدان موشاة بالبطاح منقوشات وروضات هي مرتع النواظر، ومتنفس الخواطر قد أخذت أدوات الجنان. وضحكت عن العبقري الحسان، وأتت من الحسن والإحسان بما يقصر عن وصفه لسان القلم وقلم اللسان، إلى أن وصلنا إلى الإسكندرية فدخلناها في صبيحة يوم الأحد الرابع والعشرين لصفر المذكور، ونزلنا منها بالمدرسة الموسومة بالعلمية منزلا تشتهيه الأنفس وتلذ له الأعين وتسبح من حسنه الأفواه والألسن، وأقمت مترددا هل يتسنى لي السفر أم القعود، وهل أعود في البحر أم أبقى على توبتي منه لا أعود، يدبر ابن آدم والقضاء يضحك، إلى أن تهيأ مركب ابن خلاص للسفر إلى تونس فلما كمل فيه الوسق وركب فيه الخلق قلت الدخول فيما دخل الناس فيه هو الحق وجعلت أفضل البحر فتقرب الأوطان، ونسيت هوله وما أنسانيه إلا الشيطان، فاستخرت الله تعالى وركبت فيه أنا وأخي محمد بمرسى المنار في عشى يوم الأحد ثاني يوم من شهر ربيع النبوي المبارك من عام ثمانية وثلاثين المذكور ثم رفع الشراع وسرنا حتى إذا كنا بالمواسط أمر الله باجتماع الرياح المختلفة، وتفريق تلك الأمة المؤتلفة، فضربنا في البحار يمينا ويساراً وسرنا إقبالا وإدبارا، ورأينا بروقا وأمطارا، وكسرنا أقساطا وجرارا، وقدرنا الهلاك أما انطمارا، وإما انكسارا، فلما انتهينا إلى قريب طرابلس الغربية بعث الله تعالى ريحا شديدة غربية ضربت من تجاهنا في وجوهنا، وردتنا على أعقابنا وأدبارنا إلى أن دخلنا بها مرسى العمارة في عشى يوم السبت الموفى عشرين لشهر ربيه الأخير من العام المذكور بعد أن كابدنا نصبا وعناء وعدمنا زادا وماء، وكدنا نموت غرقا وجوعا وظمئا. والأخبار كلما كانت أشد على من شاهدها كانت أطرب على سمعها والأسفار سفر عن أخلاق لرجال وتجول بالمرء في كل مجال لا جرم أني لقيت بها أنجادا وأغوارا وظلمات وأنوارا:

والناس كالناس إلا أن تجربهم ... وللبصيرة حكم ليس للبصر

كالأيك مشتبهات في منابتها ... وغنما يقع التفضيل بالثمر

) وهذا المرسى (لما رسينا به قام رئيس الجفن المذكور رجل من الأرذلين يلقب بالفنش فقال يا قوم قد رمنا السفر فما تيسر لنا فلابد لي من الإقامة أيام الشتاء هنا على كل حال وهي ثلاثة أشهر لا محالة فمن أراد السفر في البر غربا أو شرقا فليفعل ثم أظهر لنا العزم على القعود، وأعطانا عليه جميع المواثيق والعهود، وأشهد على نفسه شهود السفينة وناهيك بالشهود، وحلف باللازمة المغلظة، وأيمان الطلاق المؤكدة ثم رفع إلى السماء يديه وشرع في سب والديه، والدعاء بالذبح على ولديه. فهبط عند ذلك من المركب نحو المائتي رجل مشرقين ومغربين:

تفيض لي من حيث لا أعلم النوى ... ويسري إلى الهم من حيث أعلم

ثم قام فقال لي يا سيدي حفظك الله وأصلحك أني والله أحبك فوجب على أن أنصحك فقلت وما ذلك، جعلت فداك، فقال أرى أن تنزل إلى البر لتستريح وتكفي هذا الماء وهذا الريح، وهنا في هذا البراري دشار يقال له العماري فصل إليه فإن صلح بك أخذت حوائجك وعزمت عليك فقلت له لعمري لقد نصحت وبينت وأوضحت، وعجبت من فضله، وشكرته على قوله، ولم أدر أنه تحيل فيما تحيل ومكر فيما ذكر:

ومهما تكن عند امرئ من خليقة ... ولو خالها تخفى على الناس تعلم

فبادرت مسرعا ونهضت لا مودعا. ونزلت أنا وأخي على أن نعود ونرتاد حيث نلتزم العقود:

وقد كان حسن الظن بعض مذاهبي ... فأدبني هذا الزمان وأهله

<<  <   >  >>