للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

وكان نزولنا في صبيحة يوم الخميس الخامس والعشرين لشهر ربيع الأخير المذكور فساعة وطئنا تراب البر، وغبنا عن الجفن وعن البحر، رفع الخبيث شراعه، ووافق شيطانه الغوى وأطاعه، وراح وتركنا منبوذين بالعراء، مطروحين في وسط الصحراء حيارى في أمرنا سكرى، ولا ندري أغربا سلك أم رجع القهقرى، ولا نلتفت إلا إلى زفرة حرى، وعبرة تتوالى وتترى، فما أم طفل قد قذفها خطب الزمان لعنيد، ببعض مسارحلبيد، في أرض موحشة المسالك كثيرة المهالك، قد لمع سرابها، وتوقدت هضابها، وصرخ بومها ونفر ظليمها وحضر سمومها، وغاب نسيمها، فلما خافت على ولدها من الظلماء الهلاك، وأجلسته إلى جانب كثيب هناك، ثم عادت في طلب ماء للغلام، ليلا يقضى عليه حر الأوام، فانتهى بها المسير إلى روضة وغدير، وآثار مطى بوارك، تدل على أن الطريق هناك، فعادت إلى الغلام مسرعة وكل أعضائها إليه عيون متطلعة، فلما شارفت جانب الكثيب، رأت ولدها في فم الذيب. . .

بأعظم كنى حسرة وتلهفا ... وأكثر منى حرة وتوجعا

وأغزر دمعا عندما أقلعوا ضحى ... ومركبنا أضحى على البعد مزمعا

فلما تجرعت أفضع منها غصة، ولا أفضح منها فرصة وتحملت فقد كل شيء وتجلدت عليه إلا فقد الكتب فلم تبق لي جلدا، ولا عزيت عليه خلدا، وسقط في يدي، وأظلمت الدنيا في عيني وبقيت ولا تسأل كيف بقاءي، ودعوت وما قدرت على دعائي وعتبت ولكن:

كأنني كلما أصبحت أعتبه ... أخط حرفا بأقلامي على الماء

ومكثت في دشار الغناري النكد لا املك إلا نفسي وأخي عاريا من الثياب خاليا إلا من الوجد والاكتئاب، بين قوم لا يحسن بهم إلمام، ولا ينهاهم عن قبيح شيب ولا إسلام، ما فيهم إلا من يكلح، ويقسم وجهه أنه لا يفلح:

قبحت مناظرهم فحين خبرتهم ... حسنت مناظرهم لقبح المخبر

قد عكم البرد أفواههم، ووسم الفقر جباههم، فلا التفت منهم إلا إلى وجه مكرب، ولا أدري إلى أين انقلب هل إلى مشرق أو إلى مغرب:

حيران أذهل عن إجابة من دعا ... بأسمى وأوحش في الجميع الحضر

فأقمنا نبغي فرجة من عقال، وعرجة إلى خير انتقال، وبقيت هنالك في بيت الصلاة أتجرع الغصص وألج كما يلج العصفور القفص، أتحيل لهذه النفس لأنقذها مما وقذها، وأتخلصها مما تقلصها، وأتوسل لأجلاف أخلاف، أتجرع بينهم مرارة الذل، وأعدم حتى لمحة الظل:

أملتهم ثم تأملتهم ... فلاح لي أن ليس فيهم فلاح

فلما طال الأمر وعيل الصبر، ولم يبق منهم إلا من تسبب في سفك دمنا وكاد، وبلغ بالنفس التراقي أو كاد، قلت لأخي أما وقد حصلنا في هذا الكرب، فالإسكندرية أقرب من الغرب، وأخلص أن سلمنا من العرب، فلنخرج فلعل الله يسلك بنا للنجاة منهجا ويجعل لنا من أمرنا فرجا ومخرجا، فوافقني على ذلك واستخرنا الله تعالى هناك، وخرجنا:

في ليلة من جمادى ذات أندية ... لا يبصر الكلب من ظلمائها الطنبا

ليلة يوم الاثنين السابع لجمادى الأولى من العام المذكور، فتسللنا متفرقين فريقين، وقصدنا جهة البحر، ودعونا الله تعالى في ستر الأمر، وسرنا في الماء ليلا تقع العين على الآثار، وسلكنا بطون الأودية وظهور القفار، وقلوبنا تطير فرقا، وتخفق وجلا، وإن رأينا غير شيء ظنناه رجلا، لا نركن إلى الحلال ولا نجد سبيلا إلى الماء الزلال راكبين ظهر مهمه يضل القطا في ساحته وتكل الرياح النكب دون مساحته:

سريت به أحييه لا حية السرى ... تموت لا ميت الصباح يعاد

يقلب مني العزم إنسان مقلتي ... له الأفق جفن والظلام سهاد

وطفقنا نسير كذلك ليلا ونهاراً، ولا نبيت صياما ولا نجد إفطارا، فكنا إذا أضر بنا الجوع كل الضرر، ولم نقدر معه على الهجوع ولا على السفر ملنا إلى بعض بيوت الشعر، وقلنا الضيافة على أهل الوبر، ليست على أهل المدر، ثم نعطف عليها عطفا ونحن نتساقط ضعفا، ونقدم باعا ونوخر ألفا، فلا نجد إلا من يقول أفا، ويهدد حتفا، ويضاعف الكرب ضعفا، فنخرج عن البيوت مشردين ومطردين على حالة ترحمها الجبال الشم، وترثى لها الصخور الصم:

فنعود في البيد القفار أذلة ... خضع الرقب نواكس الإبصار

وما زلنا نقبل في ذروة وغارب ونطارد كل شارد وغارب:

تترامى كأنها ورق جف فألوت به الصبا والدبور

<<  <   >  >>