للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

إلى أن قاربنا أرض الإسكندرية وخفت عنا هموم تلك البرية:

فيا دارها بالغور أن مرامها ... قريب ولكن دون ذلك أهوال

وسرنا نتقلب إلى البيوت فنحتال على شيء من القوت، وما ظنك بالقوت، وهو كف من الشعير البالي لا نحمله إلا عن العوالي ولا نأخذه حتى نقرأ ألف رقية، ونعقد ألف خيط بألف عقدة، يطلب منا نفعها ودفعها للصوص والذئاب، والكهوف والكلاب:

تدعو الضرورة في الأمور إلى ... ركوب ما لا يليق بالأدب

فإذا فتح الله تعالى تلك الحفنة منه وضعناها مع النار في الأرض حتى تتلقى ثم نفخناها من الفحم والتراب والرماد وأكلناها:

لونا ينم لنا عليه طيبه ... ويزيد ألواناً على ألوان

ويلوح من مرآه مرأى حالك ... وكذلك كان يضيء في الأبدان

وبقيت الحال على ذلك إلى أن دنونا من المدينة وحينئذ لمحنا غرة الصخينة، فألزمنا قمرها من سحابنا سجوفا، ومحونا إشراقها كسوفا، وما ظنك بخرقاء وجدت صوفا، وما ظنك بالحلفاء أدنيت لها النار ولما وقفت من أمر برقة على ما وقفت، وكابدت منها ما كابدت، وعرفت ما عرفت أحببت أن أذكر من ذلك في النظم، ما يقرب للحفظ ويكون في العلم، وهي قصيدة نظمتها شبه الارتجال، وعلقتها بين يدي الأوجال، وأولها:

لا قدس الله ربى كل بحري ... رمى بنا بخداع في الغماري

في أرض برقة لا ماء ولا شجر ... ولا مكان سوى الريح الجنوبي

يستوحش الوحش فيها في مسالكه ... ويستعيذ لديها كل جني

فيها طوائف أعراب ذوي شره ... مبرئين من الدين الحنيفي

تلقاهم بين أطمار ملفقه ... من فوقها كل ذي وجه غرابي

من تلق منهم تقل لاقيت أسوءهم ... وجها وأسوء بالطبع الغريزي

لا يعرفون لقرص الخبز من صفة ... ولا يرون سوى القرص السماوي

ولا يبيت لهم ضيف على شبع ... إلا بنا ذاق من غم ومن غي

محاربين ترى الحجاج بينهم ... موتى يخوضون من حي إلى حي

مجردين حفاة هالكين أسى ... والأكل أول منبوذ ومنسي

تلين فيها الصخور الصم راحمة ... لمن يراها ولو كان ابن ذمي

والقوم لا راحم فيهم على أحد ... أرحمة ترتجى في قلب برقي

كيف التخلص لي من هؤلاء وما ... تريد من شاعر فيهم ونحوي

أرقى الجمال وأرقى كل ذي وجع ... ويستريح بنفثي كل جذري

وأكتب الحرز للمحموم ينفعه ... وأعقد الخيط ما لي فيه من عي

ونشرة الكسب في حفظي إذا وضعت ... على الزريبة تنفي كل وحشي

والشقف عندي لرب البيت أكتبه ... يلقى على باب بيت غير قبلي

وأعرف اليوم أشقاه وأسعده ... والليل أعرف فيه كل دري

وأعرف الشهر في خف وفي ثقل ... والعام هل مطر فيه لصيفي؟

وأضرب الخط في رمل وأعرف من ... أشكاله كل ماءي وتربي

وأحفظ الشعر للعربان أنسبه ... لأهله من جذامي ولخمي

فهذه كلها في برقة سبب ... للعيش إن بات فيها كل غربي

ولا تفتك عصا للكلب تحملها ... وتتكيها لدى الأمر الضروري

وقد دللتك عن علم وتجربة ... سل العليل ولا تسأل لطبي

لا يعرف الشوق إلا من يكابده ... لا يوجد الكعك إلا عند كعكي

ثم سرنا نجتاز على بيوت من الليف ونروي الأحاديث عن الرغيف فما يتفق لنا في الوجادة إلا بالسند الضعيف، وتسلسل الحال، واتصل الترحال، إلى أن وصلنا الإسكندرية المحروسة، وقد فنينا بؤسا، وعرينا ملبوسا، وتبدلنا صورا ونفوسا، وحملنا حشى كفؤاد أم موسى، حتى كأنا أخرجنا من القبور نخبر عن النفخ في الصور، وهول يوم النشور، فدخلناها عشية يوم السبت الرابع لجمادى الثانية من العام المذكور، فنزلنا منها بالمدرسة العلمية المتقدمة الذكر منزلا مرتضى أعقب بالرضى، وانس وأنسى ما مضى، فانبسطت نفسي ورجع إلى عقلي وحسي، وعاد يومي أحسن من أمسي، وجعلت أنشد أهل ودادي وأنسي:

أنا من البدو أقبلنا نؤمكم ... انضاء شوق على انضاء أسفار

لابد للصب أن تبدو صبابته ... ذا تبدل غير الدار بالدار

<<  <   >  >>