للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

ثم سمعت بخبر جفننا المذكور الذي غاب عدة من الشهور، ورمى وسقه ورجع فارغا إلى تحت السور، أنه قد كان قبلنا وصل ودخل راجعا إلى مرسى المدينة وحصل، فما كذبت ولا صدقت حتى ذهبت وحققت، فألفيته قد اعترف بالخيبة واعتذر عن بعد الأوبة، وانتبذ وحده من بين الأجفان كلها، انتباذ من جنى جناية لم يوت بمثلها، والناس يعظمون ذنبه جدا ويعدون شهور غيبته عدا، ويقولون له قد جئت شيئا إدا، وهو قد أبدى وجله ولبس خجله، وقال تعست العجلة، فأسرعت لما سمعت ما سمعت وأنزلت منه جميع ما استودعت وتمثلت:

كان الفتى لم يعر يوما إذا اكتسى ... ولم يكن صعلوكا إذا ما تمولا

ثم ضممت رحلي، وشمرت لدخول المدينة ذيلي، وخليت بينهم وبينه، ودخلت ولم تر بعد عيني عينه، وأخذت في تمهيد القعود والإقامة، وتجديد العهد بالأئمة المشتهرين بإمامة، فاختلفت إليهم فائتلف الشكل والشكل، وعرفت منهم ما لم أكن عرفته من قبل، ولله المنة على في ذلك والفضل:

وقد كان صرف الدهر فرق بيننا ... فمن حسنات الدهر أن جمع الشمل

وقد انتقيت منهم هاهنا مستأنفا، زيادة إلى ما ذكرته من أهل قطرهم آنفا، جماعة البسوني شرفا وجمالا، وأوسعوني برا وإجمالا، فألبسهم اللسان إحسانا، وأبرزهم البيان والبنان إنسانا فإنسانا) فمنهم (ملك قلم الفتيا، وسالك القنى العليا، والشيخ العالم العلامة نجم الدين أبو الحسن علي بن زين الدين أبي عبد الله محمد بن جمال الدين أبي القاسم هبة الله ابن الأنصاري الخزرجي المالكي أبقى الله بركته، عالم بالأحكام والشروع، ومفتي الأئمة في الخطب المروع، وإمام في الحديث والنحو والفروع، وأنه النجم في أوجه، والبحر متدفقا بموجه، له عقل راجح، وعلم واضح ونور لائح، ومع ذلك رجل صالح للخيرات إيضاحه وخبه، وبالصالحات غرامه وحبه ومناثره الأثيرة، أبين من ابن ذكاء وأظهر من شمس الظهيرة:

وليس يصح في الأوهام شيء ... إذا احتاج النهار إلى دليل

ولي في بلده القضاء، وأحسن فيه السيرة والإمضاء، وأجاد الحالتين السطوة والأغضاء، ثم نزعة من يده نزعا، وانتقل عنه تطبعا وطبعا، واشتغل بالله قلبا وذهنا وبصرا سمعا، وأقبل على العبادة والإفادة بإخلاص ويقين، فتقبل الله تعالى علمه وعمله، وإنما يتقبل الله في المتقين، ردد الاختلاف إلى بيت الله الحرام، وأطال الطواف بين الحجر والحجر والركن والمقام وجاور بالحرمين الشريفين عدة من الأعوام، فكثرت حجاته وعلت درجاته، وناجت حسناته، وحسنت مناجاته:

يقضي بنشر العلم في الناس يومه ... وتجفوه في جنح الظلام المضاجع

فينفك عنه يومه وهو ذاكر ... وينفك عنه ليله وهو راكع

<<  <   >  >>