" قَالَ: "كتاب صنفته فِي الْجرْح وَالتَّعْدِيل"، قَالَ: "وَمَا الْجرْح وَالتَّعْدِيل؟ " قَالَ: "أظهر أَحْوَال أهل الْعلم من كَانَ مِنْهُم ثِقَة أَو غير ثِقَة.." فَقَالَ لَهُ يُوسُف بن الْحُسَيْن: "استحييت لَك يَا أَبَا مُحَمَّد، كم من هَؤُلَاءِ الْقَوْم قد حطوا رواحلهم فِي الْجنَّة مُنْذُ مائَة ومائتي سنة وَأَنت تذكرهم وتغتابهم على أَدِيم الأَرْض"، فَبكى عبد الرَّحْمَن وَقَالَ: "يَا أَبَا يَعْقُوب لَو سَمِعت هَذِه الْكَلِمَة قبل تصنيفي هَذَا الْكتاب لما صَنعته".
قَالَ الْخَطِيب: وَلَيْسَ الْأَمر على مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ، لِأَن أهل الْعلم أَجمعُوا على أَن الْخَبَر لَا يجب قبُوله إِلَّا من الْعَاقِل الصدوق الْمَأْمُون على مَا يخبر بِهِ.
وَفِي ذَلِك دَلِيل على جَوَاز الْجرْح إِن لم يكن صَدُوقًا فِي رِوَايَته مَعَ أَن سنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد وَردت مصرحة بِتَصْدِيق مَا ذكرنَا.. وبضد قَول من خَالَفنَا.
وروى حَدِيث عُرْوَة بن الزبير عَن عَائِشَة: "ائذنوا لَهُ فبئس أَخُو الْعَشِيرَة".
قَالَ: فَفِي قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم للرجل: " بئس رجل الْعَشِيرَة"، دَلِيل أَن أَخْبَار الْمخبر بِمَا يكون فِي الرجل من الْعَيْب على مَا يُوجب الْعلم من النَّصِيحَة للسَّائِل لَيْسَ بغيبة. لما أطلقهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَإِنَّمَا أَرَادَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام بِمَا ذكر فِيهِ- والله اعْلَم- أَن بئس للنَّاس الْحَالة المذمومة مِنْهُ، وَهِي الْفُحْش، فيجتنبوها، لَا أَنه أَرَادَ الطعْن عَلَيْهِ والثلب لَهُ.
قَالَ الْخَطِيب: "وَكَذَلِكَ أَئِمَّتنَا فِي الْعلم بِهَذِهِ الصِّنَاعَة، إِنَّمَا أطْلقُوا الْجرْح فِيمَن لَيْسَ بِعدْل، لِئَلَّا يتغطى أمره على من لَا يُخبرهُ فيظنه من أهل الْعَدَالَة فيحتج بِخَبَرِهِ، والإخبار عَن حَقِيقَة الْأَمر إِذا كَانَ على الْوَجْه الَّذِي ذكرنَا، لَا يكون غيبَة".
يَقُول أَيْضا: وَمِمَّا يُؤَيّد ذَلِك حَدِيث فَاطِمَة بنت قيس الَّذِي أخبرناه عبد الرَّحْمَن ابْن عبيد الله الْحرفِي بِسَنَدِهِ عَن مَالك بن أنس عَن عبد الله بن يزِيد مولى الْأسود بن سُفْيَان عَن أبي سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن عَن فَاطِمَة بنت قيس أَن أَبَا عَمْرو بن حَفْص طَلقهَا الْبَتَّةَ وَهُوَ غَائِب بِالشَّام فَأرْسل إِلَيْهَا وَكيله بشعير فتسخطته فَقَالَ والله مَالك علينا من شَيْء فَجَاءَت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَآله وَسلم فَذكرت ذَلِك لَهُ فَقَالَ: "لَيْسَ لَك عَلَيْهِ نَفَقَة"، وأمرها أَن تَعْتَد فِي بَيت أم شريك ثمَّ قَالَ: "إِنَّهَا امْرَأَة يَغْشَاهَا أَصْحَابِي، اعْتدي عِنْد ابْن أم مَكْتُوم فانه رجل أعمى تَضَعِينَ ثِيَابك، فَإِذا حللت فأذيني"، قَالَت: "فَلَمَّا حللت ذكرت لَهُ أَن مُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان وَأَبا جهم خطباني فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: "أما أَبُو جهم فَلَا يضع عَصَاهُ عَن عَاتِقه وَأما مُعَاوِيَة فصعلوك لَا مَال لَهُ انكحي أُسَامَة بن زيد"، قَالَت: "فَكَرِهته" ثمَّ قَالَ: "انكحي أُسَامَة ابْن زيد" فنكحته فَجعل الله فِيهِ خيرا كثيرا واغتبطت بِهِ.
فِي هَذَا الْخَبَر دلَالَة على أَن إجَازَة الْجرْح للضعفاء من جِهَة النَّصِيحَة لتجنب الرِّوَايَة عَنْهُم وليعدل عَن الِاحْتِجَاج بأخبارهم لِأَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما ذكر فِي أبي جهم أَنه لَا يضع عَصَاهُ عَن عَاتِقه، وَأخْبر عَن مُعَاوِيَة أَنه صعلوك لَا مَال لَهُ، عِنْد مشورة استشير فِيهَا لَا تتعدى المستشير كَانَ ذكر الْعُيُوب الكامنة فِي بعض نقلة السّنَن الَّتِي يُؤَدِّي السُّكُوت عَن إظهارها عَنْهُم، وكشفهم عَلَيْهِم إِلَى تَحْرِيم الْحَلَال وَتَحْلِيل الْحَرَام.. وَإِلَى الْفساد فِي شَرِيعَة الْإِسْلَام أولى بِالْجَوَازِ وأحق بالإظهار.
وَأما الْغَيْبَة الَّتِي نهى الله عَنْهَا بقوله عز وَجل: {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} ١،وزجر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَنْهَا بقوله: "يَا معشر من آمن بِلِسَانِهِ وَلم يدْخل الْإِيمَان قلبه لَا تَغْتَابُوا الْمُسلمين وَلَا تتبعوا عَوْرَاتهمْ".
فَنهى عَن ذكر الرجل عُيُوب أَخِيه يقْصد بهَا الْوَضع مِنْهُ والتنقيص لَهُ والازدراء بِهِ، فِيمَا لَا يعود إِلَى حكم النَّصِيحَة، وَإِيجَاب الدّيانَة من التحذير عَن ائتمان الخائن وَقبُول خبر الْفَاسِق، واستماع شَهَادَة الْكَاذِب، وَقد تكون الْكَلِمَة الْوَاحِدَة لَهَا مَعْنيانِ مُخْتَلِفَانِ على حسب اخْتِلَاف حَال قَائِلهَا، فِي بعض الْأَحْوَال يَأْثَم قَائِلهَا وَفِي حَالَة أُخْرَى لَا يَأْثَم..
١ سُورَة الحجرات آيَة (١٢)