قَالَ مُسلم رَحمَه الله فِي مُقَدّمَة كِتَابه:"اعْلَم أَن الْوَاجِب على أحد عرف التَّمْيِيز بَين صَحِيح الرِّوَايَات وسقيمها وثقاة الناقلين لَهَا من المتهمين أَن لَا يرْوى مِنْهَا إِلَّا مَا عرف صِحَة مخارجه والستارة فِي ناقليه، وَأَن يَتَّقِي مِنْهَا مَا كَانَ من أهل التهم والمعاندين من أهل الْبدع".
قَالَ النَّوَوِيّ: قَالَ الْعلمَاء من الْمُحدثين وَالْفُقَهَاء وَأَصْحَاب الْأُصُول: المبتدع الَّذِي يكفر ببدعته لَا تقبل رِوَايَته بالِاتِّفَاقِ، وَأما الَّذِي لَا يكفر بهَا فَاخْتَلَفُوا فِي رِوَايَته: فَمنهمْ من ردهَا مُطلقًا لفسقه وَلَا يَنْفَعهُ التَّأْوِيل، وَمِنْهُم من قبلهَا مُطلقًا، إِذا لم يكن مِمَّن يسْتَحل الْكَذِب فِي نصْرَة مذْهبه أَو لأهل مذْهبه سَوَاء كَانَ دَاعِيَة إِلَى بدعته أَو غير دَاعِيَة وَهَذَا محكي عَن الإِمَام الشَّافِعِي لقَوْله أهل شَهَادَة أهل الْأَهْوَاء إِلَّا الخطابية من الرافضة لكَوْنهم يرَوْنَ الشَّهَادَة بالزور لموافقيهم وَمِنْهُم من قَالَ: تقبل إِذا لم يكن دَاعِيَة لبدعته وَلَا تقبل إِذا كَانَ دَاعِيَة وَهَذَا مَذْهَب كثيرين أَو الْأَكْثَر من الْعلمَاء وَهُوَ الأعدل الصَّحِيح وَقَالَ بعض أَصْحَاب الشَّافِعِي: اخْتلف أَصْحَاب الشَّافِعِي فِي غير الداعية وَاتَّفَقُوا على عدم قبُول الداعية.. وَقَالَ أَبُو حَاتِم ابْن حبَان - بِكَسْر الْحَاء -: "لَا يجوز الِاحْتِجَاج بالداعية عِنْد أَئِمَّتنَا قاطبة لَا خلاف بَينهم فِي ذَلِك".
وَأما الْمَذْهَب الأول فضعيف جدا فَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيرهمَا من أَصْحَاب السّنَن وأئمة الحَدِيث الِاحْتِجَاج بِكَثِير من المبتدعة غير الدعاة، وَلم يزل السّلف وَالْخلف على قبُول الرِّوَايَة مِنْهُم والاحتجاج بهَا وَالسَّمَاع مِنْهُم وإسماعهم من غير إِنْكَار مِنْهُم، وروى مُسلم بِسَنَدِهِ فِي كَون الْإِسْنَاد من الدّين عَن سُلَيْمَان بن مُوسَى قَالَ:"قلت لطاووس إِن فلَانا حَدثنِي بِكَذَا وَكَذَا"، قَالَ:"إِن كَانَ صَاحبك مَلِيًّا فَخذ عَنهُ".
وروى بِسَنَدِهِ عَن مسعر قَالَ:"سَمِعت سعد بن إِبْرَاهِيم يَقُول لَا يحدث عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَّا الثقاة.." وروى بِسَنَدِهِ عَن عبد الله بن الْمُبَارك يَقُول: "الْإِسْنَاد من الدّين وَلَولَا الْإِسْنَاد لقَالَ من شَاءَ مَا شَاءَ". وَيَقُول أَيْضا:"بَيْننَا وَبَين الْقَوْم القوائم.." وَمعنى هَذَا الْكَلَام إِن جَاءَ بِإِسْنَاد صَحِيح قبلنَا حَدِيثه وَإِلَّا تَرَكْنَاهُ فَجعل الحَدِيث كالحيوان لَا يقوم بِغَيْر إِسْنَاد كَمَا لَا يقوم الْحَيَوَان بِغَيْر قَوَائِم..
زِيَادَة إِيضَاح:
سبق لنا أَن أَشَرنَا إِلَى رَأْي بعض الْأَئِمَّة حكم رِوَايَة المبتدع وَبَقِي هُنَا أَن نزيد هَذِه الْمَسْأَلَة إيضاحا، جمع الْخَطِيب الْبَغْدَادِيّ رَحمَه الله مَذَاهِب الْعلمَاء عَمَّا جَاءَ فِي الْأَخْذ عَن أهل الْبدع والأهواء والاحتجاج بروايتهم.
فَقَالَ: اخْتلف أهل الْعلم فِي السماع من أهل الْبدع والأهواء، كالقدرية والخوارج وَالرَّوَافِض، وَفِي الِاحْتِجَاج بِمَا