وذكروا أن أسعد الكامل ملك كرب، وهو الرابع من التبابعة وولى الملك بعد أخيه فسار في الناس سيرة الأوائل من آبائه وأجداده، وملك من البلاد ما لم يملكه غيره، وأعطى من العدل والعدة ما لم يعطه ملكا. وذكر أن أسعد مرض مرة وأشرف على الموت منها، وذلك بعد انصرافه من سفره الذي دخل فيه بحر الظلمات، وكان له ابن يقال له حسان الأصغر؛ سماه باسم أبيه، وذكروا أنه لم يملك ومات قبل أبيه، وهو الذي ذكره أبوه أسعد الكامل في شعره، وذكروا أن حسان مات قبل أبيه، فلم يكن أحق بالملك بعد أسعد الكامل من جده المعمر، الذي يعرف بقرمل؛ وهو تبع بن زيد بن رفيدة، وهو الخامس من التبابعة فقال له يوصيه ما من شيء إلا وله أصل وأساس، وأصل الملك والأساس الرجال، وأساس الرجال الإحسان إليها؛ ومن أحسن إلى الرجال أطاعته وسمعته له، ومن سمعت له الرجال وأطاعته دانت له البلاد ومن فيها، ومن دانت له البلاد من فيها فهو مالكها بعد الله، ومالكها لا يدوم له الملك فيها إلا بالعدل والإحسان، فإنه لا طاعة لمن لا عدل له، ولا ملك لمن لا إحسان له، ثم إنه حفظ وصيته وعمل بها فحسنت سيرته، وملك ما مالكه الأوائل من آبائه وأجداده، ثم إنه وصى ابنه ياسر وهو السادس من التبابعة، وقال يا بني: إن الملك مصباح، والملك واقد ذلك المصباح، فإن حفظه من ريح تطفئه أو ذبالة لا تسائغه، أو مستوقد يخونه، دام له ذلك المصباح وسلم ضياؤه ونوره، وإن بعد عنه ولم يقم به حق قيامه عليه، طفأه الريح، فإن سلم من الريح لم يسلم من احتراق الذبالة، ولا يأمن عند احتراق الذبالة في موقد المصباح، أن يظل المستوقد. فلا النور ساطع، ولا المستوقد صحيح؛ ولا الذبالة سالمة، ولا الواقد محمود. وياسر هذا المسمى بياسر النعم. ولى الملك بعد أبيه تبع بن زيد بن رفيدة بن عمر ذي الأذعار، وحفظ وصية أبيه تبع، وثبت عليها، وعمل بها، وسار بسيرة آبائه وأجداده في سياسة الملك فيما بينه وبين الناس، ولم يتعد سيرة أسلافه. وهو الذي وطئ أرض العراق وفارس والروم وفتح مدنها، وضرب مدينة الصفد ووادي جيحون، وكان ملكه مائة وستون سنة. وذكر بعض الرواة أنه ملك بلاد الروم واستعمل عليهم ماهان فهلك ماهان، وملك بعده ابناه قيوس وياسر. ثم إن ياسر ولى الملك بعد أبيه تبع، وثبت على وصيته وحفظها، وعمل بها، في سياسة الملك بينه وبين الناس، ولم يتعد سيرة أسلافه؛ وسنن أوائله. وأنه وصى ابنه شمر فقال له يا بني: دبر الملك، فإن التدبير ثباته؛ والإحسان سياسته؛ والعدل قوامه، والرجال عزه، والمال نجدته، والعشيرة عدته، فلا ملك لمن لا تدبير له؛ ولا ثبات لمن لا إحسان له، ولا إحسان لمن لا عدل له؛ ولا عدل لمن لا قوام له، ولا قوام لمن لا رجال له، ولا رجال لمن لا عدل له. وذكر أن شمر ذا الجناح ولي الملك بعد أبيه وكان من أعظم الملوك سلطاناً، وهو الذي يقال له تبع الأكبر، وهو الذي سار في بحر الظلمات بعد أسعد، ووصل منقطع الأرض، يطلب فيها ما طلب ذو القرنين. وأسعد هو الذي بنى مدينة سمرقند وإليه تنسب. وكتب على باب مرو الكتاب الذي يعرف. وله آثار أشتهر بها إلى اليوم. وكذلك كتب على باب الصين حين فتحها ومالكها، وكتب على باب بلاد المغرب الذي ليس وراءه إلا الرمل، الذي ترتطم أمواجه كأمواج البحور. وتجري كما تجري السيول في أوديتها، فلم يجد فيها مجازا. وعبر بعض أصحابه فلم يرجعوا، فأمر بصنم من نحاس فنصب على شفير الوادي وكتب في صدره بالخط المسند الحميري ليس وراءه مجاز؛ فلا أحد يتكلف فيذهب ويعطب انتهى.
قال هشام الكلبي: وقد ذكر ذلك دعبل بن علي الخزاعي إذ يقول في شعره:
وهم سمروا سمرقند بأسمرهم ... وهم غرسوا بأيديهم دفينا
وهم كتبوا الكتاب بباب مرو ... وباب الصين كانوا الكاتبينا