قال: ثم إن تبع ولي الملك، وهو أبو كرب، وهو أول من بشر برسول الله صلى الله عليه وسلم بعد سبأ، وبعد أسعد الكامل، وحج وطاف البيت أسبوعاً، ونحر البدن وكسا الكعبة وجعل لها بابا، ومغلاقاً، وذكر أن تبع هذا هو الذي رتب الملوك، وأبناء الملوك من قومه في قبائل الغرب والعجم، ومدائنها وأمصارها فكان لكل قبيلة من العرب ملك من حمير، وكهلان، يسمع له ويطاع، ثم جمع الملوك، وأبناء الملوك، والأقيال وأبناء الأقيال، وقال لهم: أيها الناس إن الدهر نفذ أكثره، ولم يبق إلا أقله، وإن الكثير إذا قل فهو إلى النقصان أرى منه إلى الزيادة، وإنكم لتسلكون طريق الآباء والأجداد وتصيرون إلى ما صاروا إليه.وكل يوم يمر على المرء من حياته ولكل زمان أهل؛ ولكل دائرة سبب. هذه الفترة من عز فيها يعز بظهور نبي يعز الله به دينه، ويخصه بالكتاب المبين على إياس من المرسلين، ورحمة للمؤمنين، وحجة على الكافرين.
فليكن ذلك عندكم وعند أبنائكم قرناً فقرنا، وجيلاً فجيلا؛ لتتوقعوا ظهوره وتؤمنوا به وتجتهدوا في نصرته، على كافة الأحياء، حتى يفيء الناس إلى أمر الله تعالى.
وذكروا أن الملوك وأبناء الملوك من حمير وكهلان، لم تزل تتوقع ظهور رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتوصي بالطاعة له، والإيمان به، والجهاد معه، والقيام بنصرته من ذلك العصر إلى ظهور رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانوا له حين بعث من أحرص الناس على نصرته وطاعته، فمنهم من سمع وصدق، ومنهم من رآه ونصره، وجاهد في سبيل الله دونه، حتى أتاه اليقين، نطق بذلك الكتاب المبين في قوله جل شأنه:(والذين تبوءوا لدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم) إلى آخر الآية وقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه) إلى آخر الآية.
ويقال: إنهم همدان ونجيب، وذكروا أن يوسف ذا النواس لما انتقل إليه الملك ظهر له الحسد من بعض قومه، وبلغه عنهم قوارض يلفظون بها في أمره، فأقبل إليهم وقال أيها الناس ما من رئيس حقد فأفلح، ولا من رام أمراً أستعجل فيه فنجح. وكاف بمن يقول ملك يوسف ذو نواس هذا الأمر وليس من ورثته ولا من أبناء من حازه قبله، ليس الأمر كما ذكر وزعم الزاعم. ولكن للملك أساس من حازه حاز الملك. ويقال ذو نواس هذا الذي خد الأخدود، وكان يدين باليهودية وكانت اليمن تدين باليهودية من عصر تبع، وحدثت النصرانية في نجران، وفي بعض اليمن حين أتاهم فيمون، وهذا سببه وخبره يطول شرحه.
وذكروا ان ذارعين وأسمه بريم بن زيد، ويقال إنه من كهلان، وإنه ولي الملك وأحسن السيرة، وملك ملكا عظيما ويقال: إنه أقبل على أهل بيته وولده وكان قد عمر طويلا حتى ضعف بصره، وكل سمعه، وقال لهم: يا بني إني قد حفظت وصايا الأوائل من أسلافي، وملكت ملك آبائي وأجدادي، وأفادني الكبر والشيب من الأدب والزيادة في المعرفة ما يصلح به المرء دنياه ومعيشته وما يحيي المآثر والمكارم أكثر مما ورثني الآباء والأجداد. وذكروا أن بنيه وبني عمه حفظوا هذه الوصية وعملوا بها، وكانت سيرتهم محمودة، وذكروا أن ذا الأنفار لما ولى الملك وساسه أقبل على عشيرته. فقال الاثنان وإن قرب أمرهما أمثل من الواحد، وإن عظم أمره. اجتمعوا تعزوا ولا تفرقوا تذلوا.
وذكروا أن حول بن حرب بن ذي نفار ولي الملك، وساس على سنن الأوائل من أسلافه وأجداده، واسمه عامر، وذكروا أنه أقبل على بنيه واخوته، فقال لهم: ما كل موص بالغ فيما يوصى كل ما يريد. إن البلاغة دليل لإصابة مواقع الحكم. يا بني: أطيعوا الأشد منكم تعزوا، ولا تعصوا أمره فتذلوا، واجتمعوا تهابوا، ولا تتفرقوا وتعاونوا، وأنصفوا الناس واعدلوا فيما يعرض عليكم من أمورهم تحمدوا، وحسنوا أخلاقكم معهم تسودوا، وإن الشرف مع الحمد حيث كان، والعز مع الإنصاف حيث استبان، والطاعة مع السؤدد.
وذكروا أن مناخ حفظ الوصية وعمل بها، وأجرى الناس على عاداتهم، واستدام له الأمر. ثم دعا اخوته وقومه من بني عبد شمس فقال لهم: إن المرء لا يسود إلا بكرمه، ولا ينال منتهى العز إلا بقومه، ولا يرزق محبة الناس إلا بالإحسان إليهم، ولا ينال الملك إلا ببذل المال للخاصة والعامة، ولا يدوم له الملك إلا بعدله وإحسانه.