وذكروا أن الهدهاد بن شرحبيل ولى الملك بعد أبيه، وأنه خرج ذات يوم للقنص، فرأى غزالة يطاردها ذئب وقد أضافها إلى ضيق ليس للغزالة منه مخلص، فحمل الهدهاد على الذئب فطرده عن الغزالة، وانفرد لها يطلبها لينظر أين ينتهي ما بها، فسار في أثر الغزالة وانقطع عن أصحابه، فبينما هو كذلك إذ ظهرت عليه مدينة عظيمة فيها من كل شيء والإبل والخير وأنواع الفواكه. فوقف دونها متعجبا، إذ أقبل رجل من أهل البلد التي ظهرت له فسلم عليه ورحب به، ثم قال للهدهاد: أيها الملك أراك متعجبا لما ظهرت لك، فقال له الهدهاد هو ذاك ما قلت، ما هذه المدينة ومن ساكنها؟ فقال هذه مأرب، سميت بأسم قومك. وهي مدينة العرم، حي من الجن، قال فبينما هو معه في الكلام، إذ مرت بهم امرأة لم ير الراءون أحسن منها وجها، ولا أكمل منها خلقا، ولا أظهر منها صباحا، ولا أطيب رائحة. فأفتتن بها الهدهاد وعلم ملك الجن أنه قد هواها وشغف بها. فقال له: يا بن شرحبيل إن كنت قد هويتها فأنا أزوجكها، فجزاه الهدهاد خيرا، وقال له ومن لي بذلك؟ فقال له الجنى: أنا لك بما عرضت من تزويجي إياها منك، وتوفيقي بينكما على أيسر الأحوال وأتمها، فهلا عرفتها؟ فقال الهدهاد وما رأيتها قبل يومي هذا، قال الجني: هي الغزالة التي خلصتها من الذئب، وسنكافئك على جميل فعلك بأن نحبوك بها، فتأهب للدخول عليها، فأنا أزوجك بها بشهادة الله تعالى وشهادة ملائكته، فإذا أردت ذلك فاقدم علينا بخاصة قومك وملوكهم وأهل بيتك، يشهدون إملاكها ووليمتها، وميعادك شهر رجب الآتي، قال فانصرف الهدهاد بن شرحبيل وغابت عنه المدينة، فإذا أصحابه يجدون في البحث عنه فقالوا له: أين كنت؟ فنحن في طلبك مذ فارقتنا، ولم نترك شيئا من هذه الفلوات إلا قلبناها وطلبناك فيها، فقال لهم لم أبعد عنكم وأقبل يسير معهم وهو ينشد شعراً:
عجائب الدهر لا تفنى أوابدها ... والمرء ما عاش ما يخلو من العجب
ما كنت أحسب أن الأرض يعمرها ... غير الأعاجم في الآفاق والعرب
وكنت أخبر بالجن الجفاة ولا ... أرد أخبارها إلا إلى الكذب
حتى رأيت مقاصير مشيدة ... للجن مضروبة الأبواب والحجب
يحفها الزرع والماء المحيط بها ... مع المواقير من نخل ومن عنب
ومن جمادى ويأتي بعده رجب ... وسوف أسرى على الميعاد من رجب
حتى أوافي خير الجن من عرم ... ذاك بن صعب الفتى المعروف باليلب
ثم خرج الهدهاد بن شرحبيل على ميعاد أصهاره من الجن مع خاصة قومه وخدمه، حتى وافاهم فوجد هو ومن معه قصراً بنوه لهم في فلاة من الأرض، محفوفا بالنخيل والأعناب والزرع والفواكه، تجرى فيه الماء الجارية فتعجب القوم من ذلك عجبا شديدا، ورأوا ملكا عظيما، فنزلوا معه في القصر على فرش لم يروا مثله، وقربت لهم الموائد عليها من طبقات المأكولات وألوانها، التي لم يأكلوا قط أطيب منها طعما، ولا أزكى منها رائحة، وشربوا من شراب لم يشربوا قط أهضم منه ولا ألذ، ولا أمرأ منه ولا أخف. فمكثوا معه ثلاثة أيام، وزفت إلى الهدهاد امرأته واسمها الحرورى بنت يلب بن الصعب العرم ملك الجن، وأذن الهدهاد لقومه وخاصته بالانصراف إلى مواضعهم،٠ ثم مكث الملك مع الحروريين زمانا وولدت له بلقيس، وصار القصر الذي بناه له الجن دار مملكته، وتوفى أبوها الملك الهدهاد ولم تبق أمها بعده إلا قليل، وبقيت بلقيس مع أخوالها من الجن، وجلس في الملك ابن عم أبيها شمر بن غش، وسمع له الناس وأطاعوا، ثم أرسل إلى بلقيس يخطبها فأجابته إلى ذلك على أنه لا يخالفها في شيء تريده أو في شيء تكرهه، فضمن لها بذلك وتزوجها.