وذكروا أنه لما رأى من كفايتها ورعايتها للملك وحفظها وحسن قيامها به، كان لا يأمر ولا ينهي أحدا غيرها على الرسم الذي جرى لها، ثم أنه مات وما أحد درى بموته إلا في أيام سليمان بن داود عليه السلام. وقصتها مع نبي الله مشهورة، ثم انتقل الملك من رهط بلقيس إلى زرعة بن كعب وهو حمير الأصغر، أبوه عبد شمس، وعبد شمس هو سبأ الأصغر. وذكروا أن زيدا ذا الكلاع لما ولى الملك أقبل على بنيه وإخوته وبني عمه فقال لهم: معاشر الجماعة من إخوتي وولدي وبني عمي، لو كان الملك دام لأحد، لدام لأسلافكم الذين ملكوا البلاد وأحسنوا السيرة في أهلها، وأخذوا للضعيف من القوي، وأمنوا السبل، وأذلوا الجبابرة، وأمروا بالمعروف، ونهوا عن المنكر، وعمروا الأرض: شرقها وغربها، وعندكم أخبارهم، وما أنا بأعلمكم لأقص عليكم من أخبارهم ومآثرهم ومفاخرهم ما تجتزون به عما بعده. ثم ذكروا أنه أصبح ولي الملك، وهو ممن أجمعت عليه حمير وكهلان بطاعته له واتباعهم إياه، وقبولهم منه في الأمر والنهي والحرب والسلم. وذكروا أنه وصى بنيه، فقال لهم: يا بني إن حمير وكهلان لم تجتمع طاعتها لي، واتباعها إياي، وقبولها مني، لأني من أشرفها بيتا، ولا أحق بالملك فيها دون غيري، ولكنها وزنت الرجال المشهورة، فرأتني من أرجحها رأيا عند الأمر والنهي، فقلدتني أمرها، وآثرتني بالملك على غيري.
فهذه وصايا من تقدم من الملوك اختصارا، وأما التبابعة فلم يكن لهم ضبط، وقد ضاع أكثر أخبارهم، وقد ذكر أبو سعيد ونقله من كتب مؤرخي الشرق أن أول ملوك التبابعة: الحارث وهو الرائش، ثم ابنه الصعب ذو القرنين، ثم ابنه أبرهة ذو المنار، ثم عمرو ذو الأذعار.
قال في التيجان: إن حمير خلعوه وملكوا شرحبيل، ثم الهدهاد، ثم ابنته بلقيس، ثم ملك بن عمرو، ثم شمر مرعش وسمي مرعش لارتعاشه، وهو الذي خرب بلاد سمرقند؛ ثم ملك بعده صيفي بن شمر، ثم أخوه إفريقيس، ثم انتقل الملك إلى بني كهلان، وكانوا بمأرب. وملوك حمير في صنعاء. ثم صار الملك لحي عمرو بن عامر، ثم اجتمعت حمير بعد خراب السد على أبي كرب أسعد بن صيفي فخرج لملوك الطوائف وغلبهم، ثم ابنه حسان الذي قتل طسم وجديس ومنازلهم في جو اليمامة، ثم قتله أخوه عمرو، ثم بعده أخوه عبد الكلال، وملك بعده تبع بن حسان، ثم وليعة بن مرشد، ثم الصباح بن وليعة، ثم أبرهة بن الصباح، وكانت له سيرة وقصص. ومن بعده ذو قيعان، ومن بعده الحنيفة ذو شناتر، ومن بعده ذو نواس، ثم قتلته الحبشة واستولت على اليمن. ثم استخلصها منهم سيف ابن ذي يزن، وكنيته أبو مرة بن أسلم بن زيد بن الغوث بن سعد ابن عوف بن عدي بن مالك بن زيد بن شداد بن حمير بن سبأ بن كعب بن زيد بن سهل بن عمران بن قيس بن معاوية بن جشم بن عبد شمس بن وائل بن الغوث بن قطن بن عريب بن زهير بن أيمن بن الهميسع بن حمير بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان بن هود عليه السلام. ثم إن سيف لما استخلصها من الحبشة بمساعدة كسرى له، استقر له الملك، ووفدت إليه العرب يهنئونه بالملك، وكان من أمره لما وفد عليه عبد المطلب بن هاشم، وأمية بن أبي مناف، فاستأذن عبد المطلب له ولمن معه بالوصول إليه، فأذن لهم بالدخول، فدخلوا على سيف بن ذي يزن، فقيل له: إن كنت ممن تكلم بين يدي الملوك فقد أذنت لك، فقام عبد المطلب بين يديه وحوله الملوك، وأبناء الملوك، وعن يمينه وعن شماله الأقيال وأبناء الأقيال فقال عبد المطلب: إن الله قد أحلك أيها الملك محلا رفيعاً صعباً منيعاً شامخاً باذخاً، وأنبتك منبتاً طابت أرومته، وعزت جرثومته، وثبت أصله، وبسق فرعه في أكرم معدن، وأطيب موطن، وأنت بيت العز، ورأس العرب، الذي إياهم قاد، وعمودها الذي عليه العماد، ومعقلها الذي يلجأ إليه العباد، وربيعها الذي تخصب به البلاد. سلفك خير سلف، وأنت لنا خير خلف. فلن يخمد ذكر من أنت سلفه، ولن يهلك من أنت خلفه.