للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

عمى البصائر لَا يعْقلُونَ عَن الله حكمه الْبَالِغَة١ ولاشك أَن مِمَّا يخْطر فِي ذهن طَالب الْعلم أَن يَقُول: مَا سر الْفرق فِي نظر الشَّرْع الْكَرِيم بَين السّرقَة وَبَين غَيرهَا من أَنْوَاع الْجِنَايَة على المَال كالغصب والانتخاب وَنَحْو ذَلِك حَيْثُ أوجب الْقطع فِي السّرقَة دون غَيرهَا مِمَّا ذكر؟ وَالْجَوَاب أَن الْفرق بَينهمَا بأمرين.

١- الأول: أَن غير السّرقَة من الْجِنَايَات على الْأَمْوَال يكون ظَاهرا غَالِبا وتوجد عَلَيْهِ الْبَيِّنَة غَالِبا فولى الْأَمر يرد لصَاحب المَال مَاله ويؤدب الْجَانِي أدبا بليغا يردعه وَأَمْثَاله. وَذَلِكَ بِخِلَاف السّرقَة فان السَّارِق لَا يسرق غَالِبا إِلَّا فِي غَايَة الخفاء بِحَيْثُ لَا يطلع عَلَيْهِ أحد. فيتعسر الْإِنْصَاف مِنْهُ فغلظ عَلَيْهِ الْجَزَاء ليَكُون ذَلِك أبلغ فِي الردع.

٢- الثَّانِي: قلَّة ماعدا السّرقَة بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهَا.

وَمِمَّا يُوضح مَا ذَكرْنَاهُ من مُحَافظَة التشريع الإسلامي على الْمصَالح الْعَامَّة والخاصة والحقوق الفردية والعامة أَنَّك تَجِد الْبِلَاد الَّتِي يحكم فِيهَا بالتشريع السماوي فِي عَافِيَة وَأمن وطمأنينة ورخاء ورفاهية فِي الْحِين الَّذِي تكون فِيهِ الْبِلَاد الْأُخْرَى الَّتِي لَا تحكم بِالشَّرْعِ فِي قلق وَعدم طمأنينة إِمَّا بِأخذ أموالها وَإِمَّا بضياع أخلاقها وحقوقها وَجَمِيع قيمها الإنسانية إِلَى غير ذَلِك من الْمَفَاسِد الظَّاهِرَة. وَلأَجل ذَلِك ترى وَللَّه الْحَمد أَن هَذِه الْبِلَاد حفظهَا الله وحرسها الَّتِي لم يبْق على ظهر البسيطة من يعلن على رُؤُوس الأشهاد التحاكم إِلَى النظام الَّذِي وَضعه خَالق السَّمَاوَات وَالْأَرْض سواهَا على مَا كَانَ مِنْهَا لَا تساويها بِلَاد. أُخْرَى فِي انتشار الْأَمْن


١ وَمِمَّا يبين حِكْمَة الله تَعَالَى فِي وجوب الْقطع بِالسَّرقَةِ أَنه أغْلى الْيَد فَجعل فِيهَا نصف الدِّيَة من الْحر ثمَّ هِيَ تقطع فِي ربع دِينَار تسرقه. وَقد عقد هَذِه الْمَسْأَلَة بعض الشُّعَرَاء مُعْتَرضًا فَقَالَ:
يَد بِخمْس مئين عسجد وديت ... مَا بالها قطعت فِي ربع دِينَار
فأجا بِهِ الآخر بقوله:
عز الْأَمَانَة أغلاها وأرخصها ... ذل الْخِيَانَة فَافْهَم حِكْمَة الْبَار
لهَذَا يُقَال: عفت فزانت وذلت فهانت. وَبِهَذَا تعلم الْحِكْمَة الإلهية من قطع يَد السَّارِق تَطْهِير الْمُجْتَمع
من الْعَبَث لَا تشفيا كَمَا بظنه من لَا عقل عِنْده.

<<  <   >  >>