للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

كانت الليلة الأولى من تلاقينا قالت لي: أنت تعلم أية نعمة أنعمها الله علينا إذ أوصل كلامنا إلى الآخر , وأفرغ قلبينا من القيود والآفات السيئة , فقلت: نعم , قالت: فلنمنع أنفسنا الليلة عن هوى النفس , وندس على مرادنا , ونعبد الله شكراً على هذه النعمة , فقلت: هذا صواب , وقالت هذا نفسه في الليلة التالية. وقلت أنا في الليلة الثالثة: لقد أدينا الشكر ليلتين من أجلك , فلنقض ليلتين أيضا في العبادة من أجلي. وقد تمت الآن خمسة وستون عاما لم يمس أحدنا الآخر , ونحن نقضي كل العمر في شكر النعمة) (١).

وقال بعد نقلها ونقل أشياء أخرى:

(وفي الجملة: إن أول فتنة قدرت على آدم في الجنة كان أصلها امرأة. وأول فتنة ظهرت في الدنيا - أي فتنة هابيل وقابيل - كانت أيضا بسبب امرأة. وحين أراد الله تبارك وتعالى أن يعذب إثنين من الملائكة جعل سبب ذلك امرأة. وهن جميعا إلى يومنا هذا سبب جميع الفتن الدينية والدنيوية , لقوله عليه السلام: (ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء) , فإذا كانت فتنتهن بهذا القدر في الظاهر , فكيف تكون في الباطن؟

وأنا علي بن عثمان الجلابي , من بعد أن حفظني الحق تعالى من آفة الزواج أحد عشر عاما , قدر أن وقعت في الفتنة , وصار ظاهري وباطني أسير الصفة التي كانوا عليها معي , دون أن تكون هنالك رؤية , وقد استغرقت في ذلك عاما , بحيث كان يفسد على ديني , إلى أن بعث الحق تعالى بكمال فضله وتمام لطفه عصمته لاستقبال قلبي المسكين , ومنَّ عليّ بالخلاص برحمته , والحمد لله على جزيل نعمائه.

وفي الجملة فإن قاعدة هذا الطريق وضعت على التجريد , وعندما جاء التزويج اختلف أمرهم , ولا يوجد أي عساكر الشهوة إلا ويمكن إخماد ناره بالاجتهاد , لأن الآفة التي تنشأ منك تكون آلة دفعها معك أيضا , ولا يلزم الغير حتى تزول عنك تلك الصفة.

وزوال الشهوة يكون بشيئين: واحد يدخل تحت دائرة التكلف , وواحد يخرج عن دائرة الكسب والمجاهدة , فما يدخل في تكلف الآدمي ومقدوره هو الجوع , وأما ما يخرج من التكلف الهمم , وتنشر المحبة سلطانها في أجزاء الجسد , وتعزل كل الحواس عن أوصافهم , وتجذب كل العبد , وتغني عنه الهزل.


(١) كشف المحجوب للهجويري ص ٦١٠ , ٦١١.

<<  <   >  >>