لن تطاق الحياة إلا إذا تبدلت فاتخذت لها أسلوبا غير أسلوبها الآتي من تركيب المادة. وإنما صراع الأرض كلها حول إقامة هذا الأسلوب الجديد أو هدمه أو ترميمه: أسلوب كل الأخلاق والطباع الشديدة التي لا تطيقها الحيوانية فتسميها إنسانية، وتكبرها الإنسانية فتسميها الإيمان. بالأسلوب الأول تكونون بالحياة في موضعها، وبالثاني تسمون بالحياة عن موضعها "فيجب أن تولدوا ثانية".
كل ما براد أن يسد في الإنسانية مسد الدين ويغني عنه فإنما هو في رأيي كطعام أهل الجحيم، لا يطعمون فيها كما يطعمون في "نزل" لشبع وسمن بل طعاما كما جاء في القرآن الكريم (لا يسمن ولا يغني من جوع) أي لإحداث الجوع وكلبه واستمراره.
والطبيعة نفسها تهيئ الإنسان للدين بأسلوب غريب هو هذا الحب الذي يخلق فطرة على أنواع مختلفة متعددة لا يخلو منه أحد فلا معدل عنه ولا محيص. وإنما هو في مظاهره أيها كان دربة للنفس الإنسانية تصعد به درجات من الفضائل، كالإخلاص، والإيثار، والاتصال الفكري، والانبعاث الروحي، والشوق الخيالي ونحوها مما هو في الحقيقة إيجاد للحياة النفسية في أعمالنا، وفيض بالقوة الروحية على مظاهر المادة لإحداث الملامسة بين الأرواح والأشياء، والترابط بين الجاذب والمنجذب، وكل ذلك تهيئة للدين وعمله في النفس ليكون قائما على أساسه في الطبيعة. فالحب دين على أسلوب خاص ضيق، ولذلك يشتد فيه التعصب كما يقع في الدين من المؤمن به على وتيرة واحدة، إذ لا يرضى القلب لا هذا ولا هذا غير رأي واحد كيفما قلبنا الحياة رأينا في كل جهة منها وجها من وجوه الإيمان وباعثا من بواعثه وحكمة من فلسفته، فالمصلحون الذين يحاولون تجديد الأمم بصور ملونة من الغرائز تطمس على الدين، هم الذين يرجعون بهذه الأمم في غالبة الأمر إلى الحيوانية، لأنه ليس في طبيعة النفس إلا شيئان: هوى هي دائما أعظم منه، وإيمان هو دائما أعظم منها.