وهكذا يعين الغرور على طلب الدنيا ويزين للمغرور فلا تراه أبدا إلا على زينة من أمره حتى تذهب الحياة في باطل كالحق أو حق كالباطل، فإذا حسم الموت عنه مادة غروره وجاءه باليقين الذي لا مرية فيه! قال: ويحي! لو رجعت لعلي أعمل صالحا فيما تركت! وآه لو عرفت حقيقة الحياة قبل الموت، أو عرفت حقيقة الموت وأنا بعد في الحياة! أيها المغرور! ما أراك إلا دائبا في طلب الحياة حتى تفقدها من شدة الطلب فلا تكاد تستوضح ما هي، فإياك وإياها، لا تأخذ معنى الحياة من نفسك إن لنفسك أغراضا حية تريد أن تكون هي الحياة، ولا من الناس، إن فيهم أغراضا حية تريد أن تكون هي الحياة، ولا من الناس، إن فيهم أغراض نفسك، ولا من مدة عمرك، فإنها لا تبلغ طرفة واحدة من عين التاريخ.
ولكن أعد نظراً على ما ورائك وخذ معنى الحياة من ستة لآلاف سنة عرفت من تاريخ الحياة نفسها، ثم من عمر الأرض كله، ثم من تاريخ الموت المجهول أوله وآخره، خذ معنى الحياة من هذه الأفواه الصامتة التي لا تكذب لأنها تحفظ الحقيقة الإنسانية، من هذه القبور التي تملأ الرحب، من هذه الهاوية التي ينصب فيها فراغ الحياة دائما لأن تحتها مجرى التيار المتدفع من النهاية الأرضية المعروفة إلى الأبد الذي لا تعرف له نهاية، خذها من هذه الكلمة التي وضعتها السماء للأرض، هذه الكلمة الأزلية التي تحقق الإخاء والمساواة في الناس جميعا بلا تأويل ولا شذوذ، الكلمة التي يكون القبر زاوية في معناها، كلمة الله عز وجل في قوله:(كل من عليها فان فإن يبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام) .
أيها المغرور. خذ الحياة حقيقة لا وهما، وعملا لا علما، واسمع للحياة إن كنت تعرف لغتها، أو اسمع للموت الذي يعرف كل إنسان لغته، فإن كل ذلك يعلمك أن الرجل الحر لا يعرف على أي حالة يعيش إلا إذا قرر لنفسه على أي حالة يموت: وأن الحياة ليست في الوجه الذي توجد عليه من الغنى إلى الفقر، ولكن في الوجه الذي تنتهي عليه من العمل الصالح إلى العمل السيئ، وليست في ترفيه الحواس الغليظة، ولكن في النفس والضمير: الضمير النقي، لثواب الدنيا وجمال الحياة ولذة الخير، والنفس الطاهرة، لثواب الآخرة ونضرة الخلود ورحمة والله.
قال "الشيخ علي": فلا تسأل يا بني ما هي الحياة؟ ولكن سل هؤلاء الأحياء: أيكم الحي؟ ...
[سحق اللؤلؤة ...]
قال "الشيخ علي": وإني محدثك الآن حديثا يشفي نفسك من الخبر، ويفتح عليك أبوابا من العبرة والموعظة ويحضرك طرفا من الدنيا بأقداره وعلله ومذاهب حكمة الله فيه كأنما أنت شاهد أمره، فلتعلمن أن في المال مشغلة عما سوى المال، وأن الحرص عليه حق الحرص لا يدخل أمرا من أمور الحياة فيعترض بين ورده وصدره إلا من ساء أحدهما أو كلا هما وفسد الأمر فعسى أن يتصل بما هو أجل منه خطرا وأنسى منزلة، فلا يكون ذلك الحرص إلا مضيعة، ولا تكون الرغبة فيما يستخلف إلا سببا في ذهاب ما لا يستخلف.
ولتعلمن أن المال شيء غير الحياة، وأن الحياة شيء غير المال، وأن ما يخدع الإنسان فيتلون له من سراب هذه السعادة إنما يكون أكثر ما هو كائن من بريق المال يحسبه شيئا حتى إذا جاءه لم يجده شيئا، وعسى ألا يكون فيما أقبل من نعيم الدنيا إلا ما يدبر صاحبها، وأن لا تصيب فيما روي عنك من حظها إلا ما يقبل بخط نفسك عل نفسك.
ثم لتعلمن أنه إن كانت للقدرة فترة عن رجل من الناس فقيراً أو غنياً أو بين ذلك، فما هي غفلة ولا معجزة، ولعل الرجل إنما يمد له في الغي مدا طويلا حتى إذا جاء يومها انفجر عليه بما لا يطيق له سدا ولا يستطيع له ردا وأنه رب كلمة تعارف الناس معناها وأجروها على مذهبها في كلامهم فإذا هي نزلت بعض منازلها من الحياة كان لها معنى آخر لا تفسره إلا الحياة نفسها، ثم لا تفسره إلا على ضد مأخذهم ومقصدهم، فيقول الناس "فلان الأمير" ومعنى ذلك فيما نراه من حوادث الحياة وأقدارها فلان النذل، ويقولون "هذا الغني" ومذهب الحياة أنه الشقي بغناه، وفلان أعزه الله وإنما هي أخزاه الله بعزه، ويحسدون فلانا إذ يرون أن الله عز وجل قد مكن له وآتاه من بسطة المال والجاه وهو يستعد للحياة بأفضل عدتها ثم تقع الواقعة ويتغشى فلانا هذا ما شاء الله من الحوادث والأقدار فإذا هو كأنما كان يستعد للموت بأقبح عدته!.