وفي كتاب الصعاليك: " لو وصل الغيث أبنين امرأ " بغير لام، وهي الرواية الصحيحة، إلا أن فيه بعد هذا البيت:
وبلدةٍ موحِشةٍ أَرجاؤها ... أَصداؤها مَغرِبَ الشمسِ تَنَادْ
وقد لحق هذا البيت الفساد بزيادة هاء التأنيث، مثل ما لحق البيت المتقدم بزيادة اللام، وأشبه ذلك أن يكون من سوء النقل. وتصحيح الوزن أن يكون بغير هاء: " وبلدة موحش أرجاؤها " وبعد هذا البيت:
جاوَزْتُها وصاحبي عَيْرانةٌ ... في مرفقيها عن الدفِّ تَعَادْ
فقد أفسد الوزن بقوله: " وصاحبي " بزيادة الواو. وإنما تصحيح الوزن أن يقال: " جاوزتها صاحبي عيرانة ".
وهذا الفساد متجانس. ولا شك أنه من جهل الرواة. وقد حكى " محمد ابن سلام " عن " يونس بن حبيب " أنه قال: " عجبت لمن يأخذ عن " حماد " وهو يلحن ويكذب ويكسر ". ول " حبيب بن أوس " كتاب يعرف بكتاب القبائل فيه خمس وثلاثون قبيلة من معد بن عدنان، وليس فيه قبيلة من قبائل قحطان! وفيه أبيات من قصيدة " المرقش " التي أولها:
لابنةِ عَجْلانَ بالجزعِ رُسومْ ... لم يتعفَّينَ والعهدُ قديمْ
وهي في وزن هذه الأبيات الماضية. وفيما ذكر " حبيب " فساد بين.
فيجوز أن يكون أفسده من نسخ الكتاب من بعد " حبيب " ويجوز أن يكون " حبيب " ذكرها على ذلك، لأنه وجدها في النقل، عليه. فأقرها على ما وجد.
ثم أعود إلى حديث الغزو في الربيع.
ألا ترى إلى قوله: " هل تبلغن بلدة إلا بزاد " أي اعذريني يا سليمى فإني لا سبيل إلى الغزو، وذلك لفقد الزاد. وقال " النابغة ":
وكانت له رِبْعِيَّةٌ يعرفونها ... إِذا خضخضتْ ماءَ السماءِ القبَائِلُ
تحثُّ الحداةَ، جالزاً بردائه ... يقي حاجبيه ما تثير القناديلُ
ولكن الطاغية هاب العرب وغيرها من جيوش المسلمين فجعل يطلب المعاذير. وقد كان رأي " حلب حرسها الله " في سنة خمس وثمانين ووطيء بساطه من كان بها من الولاة. ولو رآها الثانية لكان كما أنشد " ابن السكيت " " للأسدي ":
لما رأَى برقا يُضِيءُ وميضُه ... منازلَ من أَسماءَ كانت تكونُها
بكى جَزَعاً من أَن يموت فأَجْهشَتْ ... إِليه الجِرِشَّي وارْمَعَلَّ خنينُها
ولو خرج في الشتاء كما يدعى أهل ملته، وذلك إذا طلع قلب العقرب، لهره الهراران: شيبان وأخوه. فكان مثله ومثل أصحابه مثل نابحات أصمتها أريز وشفيف، ولكان أصحاب القسي من جنوده في ليلة كليلة " الشنفرى الأسدي " لما ذكرها فقال:
وليلةِ نَحْسٍ يصطلي القوسَ ربُّها ... وأَقطُعَه التي بها يتنبَّلُ
سريتُ على غَطْشٍ وبَغْشٍ وصحبتي ... سُعارٌ وإِرزيزٌ وجِنٌّ وأَفكَلُ
يعني بالغطش إظلام البصر، والبغش: المطر الضعيف، والسعار شدة الجوع. قال الشاعر:
تُسَمِّنُها بأَغزرِ حَلبتيها ... ومولاكَ الأحَمُّ له سُعَارُ
ويقال: السعار شبه الجنون من الجوع: والجن ظلام الليل.
والإرزيز الصوت، كأنه يعني صوت أسنانه من الرعدة. ويجوز، إذا قلنا إن الإرزيز الصوت، أن نجعله ها هنا الرعد " ويقال: الإرزيز، وخز على الكبد من الجوع. والأفكل: الرعدة ".
ولو نزل بهم ذلك لتهادوا أوتاد الخيام ليوقدوها في المجامر، كأنها المجمر أو الغار، ولقال الأعرابي لامرأته وهو يريد الغنيمة وضمها إليه، كما قال " مرة بن محكان " لامرأته وهو يريد إكرام الأضياف:
يا رَبَّةَ البيتِ قُومِي غيرَ صاغِرَةٍ ... ضُمِّي إِليكِ رِحالَ القومِ والقِرَبَا
يا ليلةً من جُمَادَى ذاتَ أَندِيةٍ ... لا يُبصرُ الكلبُ من ظلُماتِها الطُّنُبَا
لا ينبح الكلبُ فيها غيرَ واحدةٍ ... حتى يلفَّ على خيشومِه الذنَبا
إذاً لقال العلج الكافر وقد غمره الصقيع - وهو فيما يزعم يناجي ربه ويستغيث " المسيح " لو أغاثه - كما قال بعض الأعراب لما كلب عليه القر:
أَيارَبِّ إِن القُرَّ أَصبحَ مؤذِياً ... وإِني لَسُبروتٌ ومَالِيَ دِرهمُ
فإِن كنتَ يوماً ما جهنمَ مُدْخِلي ... ففِي مثلِ هذا اليومِ طابت جهنمُ
رويدك رويدك! إن أمامك لأمرين: إساراً يطيل استخدامك، أو سيفاً يسفك دمك كما قال " الحارثي ":