فقالوا لنا ثنتانِ لا بد منهما ... صدورُ رماحٍ أُشرِعتْ أَو سَلاسِلُ
ولو نزل خميسهم بحيث يظن المرجفون، وهو وافر كامل، لرأيت الطويل العاتر مديداً فيهم، والخفيف المقبوض بسيطاً إليهم. فكثر المتقارب عند ذلك بينهم، وسمعوا الهزج والرجز، فعجزوا عن الرمل والمضارع له في تلك الساعة، وكان السريع والمنسرح عندهم محمودين.
وظل جيشهم مجتثاً وعميدهم مقتضباً؛ واستغنى بما أخذ منهم الخليل وحمل جهازهم على العروض، وكثر فيهم المقيد وقل المطلق.
وهذه الألفاظ ألغزتها عن أجناس الشعر التي رتبها " الخليل: فأردت بالطويل الرمح، وبالمديد الرمح إذا مد إليهم، وهو فعيل من: مددت، في معنى مفعول.
وعنيت بالخفيف السيف، لأن السيوف يقال لها: البيض الخفاف.
وأوهمت أني أريد الخفيف من الشعر.
وأردت بالمقبوض، الذي قبضة الكف على قائمه. وأوهمت أني أريد المقبوض الأجزاء، وهو الذي ذهب خامسه الساكن في الأصيل. وليس في الخفيف من الأوزان قبض، فذلك تقوية للإلغاز.
ووصفت الجيش بالوفارة والكمال، لأن في الشعر وزنين يقال لهما: الوافر والكامل.
وعنيت بالبسيط، المبسوط للضرب، لأن في الشعر وزناً يقال له البسيط وذكرت الهزج وأنا أعني به هزج السيوف في الضرب، لأن في اشعر هزجاً.
وعنيت بالرجز، ارتجاز القوم في الحرب، لا أني خصصت به الرجز الذي ذكره " الخليل " دون الرجز على مذهب العرب.
وأردت بالرمل، الرمل من السير، كما قال الراجز:
مالَكِ من شيخِكِ إِلا عَمَلُهْ
إِلا رسيمُه وإِلا رَمَلُه
وأردت بالمضارع له، ما قاربه من السير، ومن ذلك قيل للفعل مضارع، لأنه ضارع الأسماء، أي قاربها.
وعنيت بالسريع، الرجل الذي يسع في الهرب.
وبالمنسرح، الذي ينسرح في السير ويمتد، من ذلك: سرحت الغنم إذا أرسلتها.
وأردت بالمجتث، الذي قد اجتث أصله، أي قطع.
وبالمقتضب، الذي قد اتضب من أصحابه، أي اقتطع. والاقتضاب الاقتطاع.
والمتقارب، أردت به الخطو المتقارب من الفزع، أو الرجل الذي تقارب خلقه، أي انضم وتضاءل من الخوف.
فهذه أجناس العروض الخليلية، قد مضت في هذا الفصل على معنى اللغز والتورية.
وأردت بالخليل، الفقير. ألغزته عن " الخليل بن أحمد ".
وأردت بالعروض، الناقة التي لم تكمل رياضتها. ألغزتها عن عروض الخليل قال الشاعر:
ورَوْحةِ دُنيا بين حَيَّينِ رُحتُها ... أَسيرُ عروضاً أَو قضيباً أَرُوضُها
وأردت بالمقيد، رجلاً قيد.
وبالمطلق، من يطلق من الإسار.
وزعم المرجفون من أله ملة الطاغية، أنه قد أمر قوماً من أهل عمله، بحفر أماكن في بلده ظن المرجفون أن حفرها يكون قوة لزيادة الماء في السعيد " قويق " - جعله الله الغمر السائح - وإنما سميته السعيد لأن النهر الصغير يقال له سعيد، وجمعه سعد. قال " أوس بن حجر ":
وكأَن أَظعنَهم مُقَفِّيةً ... نَخلٌ مَوَاقِرُ بينها السُّعُدُ
ولأنه سعد بقربه من " السيد عزيز الدولة " أعز الله نصره " وبكونه شرباً للمسلمين. وفي قدرة الله تعالى أن يجعله في الآخرة من أنهار الجنان.
وزعموا أن ذلك الموضع يتصل بالسواجير. وتلك السواجير في أعناقهم إن شاء الله.
وهذا فن من الكذب دل على نزول الطاغية بدار المعجزة. وكيف لنا أن يذهب الله عمرو! وما له في تقوية " قويق " السعيد حتى يكون ثالثاً للرافدين وهما " دجلة والفارت "؟ قال " الفرزدق ":
أَميرَ المؤمنين وأَنت عَفٌّ ... نَقِيٌّ لستَ بالوالِي الحريصِ
بعثتَ على العراقِ ورافِديه ... فَزارِيّاً أَحَذَّ يدِ القميصِ
وحتى يعظم سمكه فتصير واحدته، وهي دون الشبر، تزيد على شبر الرجل أي قامته؛ وحتى تكون صغاره التي يعمل من مثلها الصحناء، حيتاناً تشبع أخيذتها جماعة يشكون اسغب، وحتى تجري فيه السفن والفرافير، وحتى يكون النازل بحلب حرسها الله، كما قال القائل:
يا صاحِ أَلمِمْ بأَهلِ الفصرِ والوادي ... وحبَّذا أَهلهُ من حاضرٍ بَادِ
تُزجَى فَرافيرُه والعيسُ واقفةٌ ... والضَّبُّ والنُّونُ والملاَّحُ والحادِي