للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وقد مضى القول في أن " قويقاً " المبارك، طيرة لهم. فكلما زادوه من قوة فإنما يرجع وبالاً عليهم. ولعل هذا الغراب المصغر في قول العامة، يعظم فيصير عقاباً إن شاء الله، فتكون مضرة عدوها أعظم.

لأنه إذا فتك بهم وهو صغير من أفرخة الغربان، فكيف به إذا عد من الكواسر المختطفات؟ ولعله إن شاء الله يصير العنقاء التي يذكرها الناس ويضربون بها المثل. فإذا صار كذلك، صارت جموع الأعداء قوتاً في كل أوان. وذلك أن بعض الرواة زعم أن العنقاء المذكورة كانت طائراً عظيماً فاختطفت صبياً في بعض الأيام، فدعا عليها " حنظلة بن صفوان " - وهو نبي أهل الرس فيما يقال - فغابت إلى اليوم.

ولو كان عنده من القوة ما يدعيه أهل ملته، لشرع في قطع " قويق " السرى، لا في تقويته. وإنما وصفته بالسرى، لأن السرى النهر الصغير.

وهو سرى في نفسه، من: السرو، لأن ماءه نمير يروي الواردة ويسقي الأرض المجاورة، وقلما يغرق كما يفعل غيره من الأنهار الخضارم.

وإنما مثل " قويق " ومثل الروم في هذا الحديث المصنوع، مثل رجلين يتحاربان، في يد أحدهما نصل من نصال السهام وقد شق على الآخر مكانه في يده، فكان ينبغي إن كان من أهل القوة أن ينتزعه من يد ذلك الرجل، لا أن يشرع في زيادته وتقويته حتى يوجد سناناً أو سيفاً.

ولولا أن الكذب لا يحسن بأهل الإسلام ولا بأحد من الناس، لجازيناهم على كذبهم الظاهر، وكنا فيما نفعل بريئين من الملامة.

وذلك أن فاعل القبيح من القبائح على سبيل الجزاء، لا يحسب ذميماً في الرأي. قال الله " السيد عزيز الدولة وتاج الملة أمير الأمراء " وجل: " ومكروا ومكر الله، والله خير الماكرين ".

فالمكر منهم ذميم، والمكر الثاني على سبيل الجزاء، فهو خارج عن المعنى الأول. وقال " عمرو بن كلثوم ":

أَلاَ لا يَجهَلَنْ أَحدٌ علينا ... فنَجهلَ فوقَ جَهْلِ الجاهلينا

فالجهل الأول قبيح، والثاني على طريق الجزاء فليس بقبيح.

ولم نكن لنرضى في مجازاتهم بالمماثلة، ولكن نضعف ونزيد. لأن ذلك من أفعال الله تعالى، يجزي على السيئة والحسنة بالخلود الدائم، إما في الشقوة وإما في النعيم.

وما الذي كنا نقول لو استحسنا ذلك؟ كنا نزعم أن " السيد عزيز الدولة " - أعز الله نصره - قد راسل " أمير المؤمنين الظاهر لإعزاز دين الله " بأن يأمر الحفدة والأعوان والعلماء بالهندسة ومجاري المياه، أن يصرفوا البحر عن مدينتهم " قسطنطينية " إلى جهة أخرى، حتى ينضب مما بينها وبين بلاد المسلمين من ماء البحر، فيصير أرضاً مسلوكة تسافر فيه الناقة والبعير، ويمكن الجيوش المنصورة أن تسلكه لفتح مدينتهم التي بها دار المملكة، فما حجزهم عن ذلك بصدر الإسلام إلا البحر.

وقد روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أما فراس فنطحة أو نطحتان، ثم لا فارس بعدها " والروم ذات القرون أهل صخر وبحر، هيهات آخر الدهر.

وإنما قلت ذلك لأن بعض أصحاب السير من الفلاسفة، ذكر أن ما بين " الإسكندرية " وبلادها وبين " القسطنطينية " كان في قديم الزمان أرضاً تنبت الجميز، وكانت مسكونة وخمة، وكان أهلها من اليونانية. وأن " الإسكندر " خرق إليها البحر فغلبت أمواهه على تلك الأرض. وكان بها فيما يزعمون " ققنس " الطائر الذي تدعى الفلاسفة فيه تلك الدعوى المستطرفة، وأنا أذكر من دعواهم ما سنح: يزعمون أن هذا الطائر طائر حسن الصوت، وأنه كان في بلاد اليونانية.

فإذا حان موته زاد حسن صوته قبل ذلك بسبعة أيام، حتى لا يمكن أحداً أن يسمع صوته، لأن يغلب على قلبه من حسن ذلك الصوت ما يميت السامع. وأنه يدركه قبل موته بأيام طرب عظيم وسرور فلا يهدأ من الصياح. ويزعمون أن عامل الموسيقى من الفلاسفة، أراد أن يسمع صوت ققنس في تلك الحال، فخشي إن هجم عليه أن يقتله حسن صوته، فسد أذنيه سداً محكماً، ثم قرب إليه فجعل يفتح من أذنيه شيئاً بعد شيء حتى استكمل فتح الأذنين في ثلاثة أيام، يريد أن يتوصل إلى سماعه رتبة بعد رتبة، ولا يبغته حسنه في أول مرة فيأتي عليه. ويزعمون أن ذلك الطائر هلك فلم يبق منه ولا من ولده شيء. وكأنهم يرون أن ماء البحر غشي ققنس ورهطه بالليل في الأوكار، فلم تبق له بقية.

وهذا حديث يذكر للعجب منه.

<<  <   >  >>