ومع امريء القيس يومئذ جهاز وأثاث من بقايا المملكة، وعلى نسائه حلى ونظام فكانت امرأة عامر بن جوين ترى على نساء امريء القيس من الحلي واللباس ما لا تصل إلى مثله، فجعلت تحسن لعامر الغجر به حتى هم بذلك وتردد في نفسه، إلا أنه تهيب الغدر. فيقال إنه لما طال عليه ما يعتلج في صدره من حديث الغدر والوفاء، أتى موضعاً بالجزع وهو خال من الناس فصاح بأعلى صوته: " غدر عامر بن جوين " فأجابه الصدى: غدر عامر بن جوين. ثم صاح: " وفي عامر بن جوين ".
فأجابه الصدى: وفي عامر بن جوين. فقال لنفسه: هاتا أحسنهما. ثم انصرف إلى امرأته فأخبرها أنه لا سبيل له إلى الغدر بامريء القيس.
ثم إن " امرأ القيس " ظن بعامر ظنن السوء وخاف أن يغدر به.
فتحمل عنه بأهله وماله. ففي ذلك يقول " عامر بن جوين ":
أَأَظْعانُ هندٍ تلكمُ المُتَحمِّلَهْ ... لتُحزِنَ قلبي خُلَّتِي المتدِلِلَّهْ
أَلم تَرَكم بالجَزْعِ من مَلِكات وكم ... بالصعيدِ من هِجَانٍ مؤَبَّلَه
فلم أَرَ مِثلَهما خُباسةَ واحدٍ ... ونَهنهتُ نفسي بعدما كدتُ أَفْعلَه
إِذا هَزَّتِ العنقاءُ دونِيَ رأسَها ... كجِيدِ العروسِ أَصبحتْ متعطِّلَة
فآليتُ لا أُعطي مليكاً مَقَادةً ... ولا سُوقَةً حتى يعيشَ ابنُ مَنْدله
الخباسة: الغنيمة. والعنقاء: هضبة في الجبلين. " وابن مندلة " ملك قديم ضرب به المثل لأنه مشهور. كما قال " الهذلي ":
وحتى يئوبَ القارظانِ كِلاهما ... ويُنشَرَ في القتلى كليبٌ لوائلِ
و" قويق " السعيد إذا أراد كيد العدو، فإنه مصغر على معنى التكبير، كما قال " لبيد ":
دُوَيهيَّةٌ تَصفَرُّ منها الأَناملُ
ولو خرج في الأشهبين، والعامة تسمى ذلك الوقت الكوانين، لكان شطر هذه الكلمة طيرة له بالكي. وقد حدث بعض من ورد من حضرة هذا الرجل وادعى الخبرة بما عنده، أنه يعرض له صداع شديد. وأنه يداوي منه بالكي، ففي رأسه مسامير كثيرة. والمثل السائر: آخر الدواء الكي.
وبعضهم يقول: آخر الداء الكي. وكلاهما له معنى قال الراجز:
يُنْقَضُ مني كُلَّ يومٍ شَيُّ
وأَنا في ذاكَ صحيحٌ حَيُّ
والمرءُ يُفنيه المَدَى والطيُّ
وآخِرُ الداءِ الدويِّ الكي
والعامة إذا أنكروا ما يأتي به الرجل قالوا: يجب أن يكون على رأسه صليب. وملة هذا الرجل تقتضي أن يكون كيه مصلباً. وما خير شيخ قد كوى رأسه ذات المرار؟ وقد علمنا أن " سحيماً " لما ابتهل في الدعاء قال:
وَرَاهُنَّ ربيِّ مِثْلَ ما قد وَرَيْننِي ... وأَحْمَى على أَكبادِهنَّ المَكاوِيا
وإنما مثله في سه وتنقض جسمه الكي الذي برأسه، مثل " عمرو ابن أحمر " لما قال:
لَبِسْتُ أَبي حتى تَمَلَّيْتُ عُمْرَهُ ... وأَبْلَيْتُ أَعمامي وأَبليتُ خاليا
وما كنت أَخشى أَن تكون مَنِيَّتي ... ضَرِيبَ جِلاَدِ الشَّوْلِ مَحْضاً وصافيا
شربتُ الشُّكاعَى والتددتُ أَلِدَّةً ... وأَقبلتُ أَفواهَ العروقِ المكاويا
أُرَجِّي شباباً مُطْرِهِمّاً وصحةً ... وكيف رجاءُ المرءِ ما ليس لاقِيا
ولسنا نعيره الكبر ولا غيره من القضية، وإن كان القائل قد قال:
إِذا عُيِّروا قالوا مقاديرُ قُدِّرتْ ... وما العارُ إِلا ما تَجُرُّ المقادِرُ
لأن المثل: لا تسخر من شيء فيحور بك: وقال " عمرو بن شرحبيل ": لو عيرت رجلاً برضاع الغنم، لخشيت أن أرضعها. وقال بعض التابعين: إني لأرى الشيء مما يعاب فلا يمنعني أن أعيبه إلا مخافة أن أبتلي به. وزعم الرواة أن " الأخطل " لما بلغه قول " جرير ":
جارَيْتَ مُطَّلَعَ الرِّهانِ عَشِيَّةً ... رَوْقاً شبيبتُه وعُمْرُكَ فان
قال: " أديل والله مني النابغة الجعدي " وذلك أنهما كانا تهاجيا والنابغة شيخ والأخطل شاب. فعيره الأخطل مسنه، قال:
لقد جارَى أَبو ليلى بقَحْمِ ... ومُنْتَكِثٍ عن التقريب وانِ
فهذا من قولهم: لا تسخر من شيء فيحور بك.
وأنشد " ابن الأعرابي ":
لا يَبْعُدَنْ عهدُ الشابِ ولا ... لذاتِه وزمانِه النَّضْرِ