ما قلتُ يومَ الدارِ للقومِ حاجزِوا ... عن الموتِ واستبقوا الحياةَ على الذُّلِّ
ولكنني قد قلتُ للقومِ ضارِبُوا ... بأَسيافِكم حتى يَصِلْنَ إِلى الكهْلِ
يعني " عثمان بن عفان " وهو يومئذ ابن نيف وثمانين سنة. وكان رضي الله عنه - فيما يزعمون - يخضب بالصفرة. وروى أصحاب الأخبار أن " نائلة ابنة الفرافصة الكلبي " - و " ابن حبيب " يقول: الفرافصة، بفتح الفاء - لما دخلت على " عثمان " قال لها: أتقومين إلى أم أقوم إليك؟ قالت: ما كنت لأقطع إليك عرض السماوة، وأكلفك أن تقطع إلى عرض السرير. فقال لها: لا يغرنك الشيب، فإن وراءه ما تحبين.
فقالت: إني من نساءٍ أحبُّ أزواجهن إليهن الكهل.
فسمته كهلاً.
و" الأصمعي " يذهب إلى أن شعر اللحية إذا اتصل ولم يبق فيه مزيد، فالرجل كهل. وقال بعض الناس: إذا رأى الشيب الرجل فهو كهل، ولذلك يقال للنبات: اكتهل. إذا أزهر.
وقد كان يجب على هذا الرجل أن يأخذ نفسه بشيم أهل السن.
وقد يكون الإنسان على الطريقة العادلة، ثم يستيقظ فيلزم القصد. قال " زهير ":
صَحَا القلبُ عن سلمى وأَقصر باطلُه ... وعُرِّيَ أَفراسُ الصِّبا ورواحلُه
وأَقْصَرتُ عمَّا تعلمينَ وسُدِّدتْ ... عليَّ سِوَى قَصْدِ السبيلِ مَعَادِلُه
وقال " أعشى قيس " وكان أحد غواة العرب:
فإِن أَخاكِ الذي تعلمين ... لياليَنا إِذ نَحُلُّ الجِفارا
تبدَّل بعدَ الصِّبا حِكمةً ... وقنَّعه الشيبُ منه خمارا
فإِمَّا تَريْني على آلة ... قلَيْتُ الصِّبا وهجرتُ التِّجارا
فقد أُخرِجُ المُسْتَرا ... ةَ من خِدْمِها وأشِيعُ الفِجارا
وأحسن من هذا الانتقال عن الغي إلى الرشد، ما قال " الأعور الشني ":
وإِني لأَرجو أَن أَموت ولم أَنَلْ ... حراماً من الدنيا: زِناءً ولا خَمْرا
وما أَطلعتْني بِنتُ جارٍ مجاوِرٍ ... على سِرِّها حتى أَسوقَ لها مَهْرا
وقول " الدعيل بن الكلب العنبري ":
وما أَعجبَتْني حُلَّةٌ فوق خاربٍ ... رأَى اللهُ حَظِّي غيرَها فكسانِيا
وما أَنا بالجاذي على حَدِّ مرْفَقي ... إِلى جارتي ليلاً لأُصبحَ زانِيا
وقول الآخر:
نارِي ونارُ الجارِ واحدةٌ ... وإِليه قَبْلِي تُنزَلُ القِدْرُ
ما ضرَ جارِي إِذ أجاوِرُه ... أَلا يكونَ لِبيتِه سِتْرُ
وفي الحديث المأثور: " أبغض الناس إلى الله، الشيخ الزاني والفقير المحتال ".
وحدث رجل يعرف ب " مشرق بن عبد الله " - وأصله رومي وهو من أهل القرآن ومقامه الآن بحلب حرسها الله، وكان في صحبة محمد ابن عبد الله الفصيصي - أن هذا الرجل له ولد من امرأة ليست تحل لمثله على رأي أصحاب الشرائع، وأنه قد جعل له رتبة. ورأيه، إن مات أخوه قبله، أن يقر بنسبه ويجعل الملك إليه. فمثله في هذا مثل " معاوية " و " زياد ابن أبيه " وإذا صح أمر هذا الولد، فمثله مثل قول الشاعر وهو يروي ل " أم تأبط شراً ":
ليت شعري ضَلَّة ... أَيُّ شيءٍ قَتَلكْ
أَمرِيضٌ لم تُعَدْ ... أَم رصيدٌ خَتَلَكْ
والمنايا رصدٌ ... للفتى حيث سَلك
كلُّ شيءٍ قاتل ... حينَ تَلْقَى أَجَلَك
ليت نفسي قُدِّمتَّ ... للمنايا بَدَلَكْ
أَيُّ شيءٍ حَسَنٍ ... في الفتى لم يك لك
والأبيات معروفة، وقد ذكرها صاحب الحماسة وإنما ضربت بها المثل لهذا الولد، لأنها تحتمل أمرين: أن تكون من الوزن المديد، وهو من أهل بيت المملكة في الشعر، لأنه أخو الطويل والبسيط وإن كان مقصراً عنهما، وهو معهما في دار الملك. وعنيت بدار الملك: الدائرة التي تجمعه وأخويه. فمثله مثل " إبراهيم بن شكلة " خرج اسمه بالغناء، وأخواه " موسى وهارون " الملكان. والأمر الآخر في هذه الأبيات أن تكون من الرمل، وهو من عامة الشعر. وبذلك حكم عليها أهل العلم.