للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

إنا له وإنا إليه راجعون. قربت بأساء الضياون وحضرت آجال الديكة والدواجن، ودنت منايا الحنتم. أما الضيون فإذا رحل عنه أهله ضاع وفقد الطعام والماء، فإن كان حازماً لحق بالنموس فكان معها حتى يرفأن الناس وتخمد نار الفتنة. وإن أقام في المنزل ضعف جرماه: جسمه وصوته، حتى يطمع الجرذ فيه ولا تهابه الفلوة ولقد كانت تسمع صوته وهو في سفل البيت وإنها لفي العلو فينالها من ذلك فزع شديد. وقد بلغني أنه يكون في الجولات من أملاك الروم ها هنا قوم متخلفون يحملهم سوء الوثع وقلة النزاهة على أكل الضياون، لأن أهلها يغيبون فتظهر من الدور طلباً للمعايش، فيصيدونها صيد الوحش التي أطلق أكلها للإنس. وقد كانت بنو أسد في القديم تعير بأكل الكلاب، وفي ذلك يقول الراجز:

يا أَسَدَيُّ لِم أَكلتَه لِمَهْ

لو خافَكَ اللهُ عليه حَرَّمَهْ

فما أَكلتَ لَحمَه ولا دَمَهْ

فأما الخياطل فما ذكر أكلها في أخبار المتقدمين. فويح للضيون! بعدما كان يطارد الغفة كما قال الشاعر:

يُدِيرُ النهارَ بِحَشْرٍ له ... كما عالجَ الغفوةَ الضَّيْونُ

ويختلها ختل السرحان الغزال ويثب إليها كما وثب حبيل براح إلى أمم الأغفار؛ ضعف لعدم القوت حتى رآها وهي المخطبة فما عرض لها بالقبيح، وجاءته ورهطه شعوب فرأيتهم في الحجرات وقد طفئت منهم العيون الزاكية، بعد ما قال فيها الشاعر:

خَليليَّ عُوجَا من صُدورِ الكوادنِ ... نُصِيبُ قليلاً من ثَريدِ الحواقن

ثريدٌ كأَن السَّمنَ في حَجَراتِه ... نجومُ الثريَّا أَو عيونُ الضياوِنِ

أتدري يا ثعال من أي شيء اشتق الضيون؟ وهيهات! لعل سميك " أحمد بن يحيى الشيباني " ما سمع خبراً لذلك. وهو نادر من الكلام لأن ياءه لم تدغم بالواو، فإذا كان من: ضان يضون فهو فيعل، وإلى ذلك ذهب الناس في وزنه. وإن كان فعولاً فهو من: ضان يضين، وكلا القولين ممات. ولا يقعن في وهمك أن اشتقاقه من الضأن، فإن الضأن مهموز. أليس في الكتاب المجيد: " من الضأن اثنين ومن المعز اثنين "؟ ولا يغرنك قول الشاعر:

أَصبحتُ فَنّاً لِرَاعِي الضأنِ أُعجِبُه ... ماذا يَريبُكَ مني راعِيَ الضانِ

فإن تخفيف الهمز من الضأن جائز في النثر والنظم، ويكون لازماً في القوافي الملينة. إلا أن الحكم في الاشتقاق للهمزة.

وأما الديكة والدواجن فإذا ريع الناس بهشوا إليها بالأصلات مخافة عليها من جيران السوء والضيعة إذا تركوها بالأفنية. ومن أشفق منهم على التعارف وصواحبهن، فإنه يربط بعض أرجلها إلى بعض، فكأني بأبي عقبة وهو مشدود الرجلين إلى أرجل دجائج ثلاثة أو أربع وهو معلق من مؤخرة إكاف، وقد أفرط هو وصواحبه في الصراخ. صبراً أبا عقبة " فإن مع العسر يسراً " الغمرات ثم ينجلين:

البَسْ لِكُلِّ عِيشَةٍ لبوسَها

إِمَّا نعيمَها وإِمَّا بُوسَها

بعض الشر أهون من بعض. هذا خير لك من أن تكون قد دليت في وطيس محام أو غلت بك إحدى البرم عائماً في ملح وماء. ولئن سلمت يومك لتهتفن في دار معترفة:

لا تأمنَنَّ الدهرَ بين ظعائنٍ كما بان من جوٍّ الوديقةِ أَكْدَرُ

أتجري يا ثعال من " أكدر " هذا المذكور؟ هو " أكيدر بن عبد الملك " - ويقال: أكيدر بن عبد الله - صاحب دومة الجندل وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب له الكتاب المعروف ثم ارتد وظعن عن بلاده إلى بلاد الحيرة فابتنى له داراً وأقام بها.

وأما الحناتم فإنها تكون عند القوم المتصعلكين والمستورين قد ملئوها باللصف والشفلح وعلوهما بدر الضئين والمعز، فإذا ارتاع الناس وأزمعوا الهرب كانت من أجل ما يحتملون. ويكون على الحمار أو البغل الكبير عبء ثقيل غير متعادل في التحميل، بل هو من اليمين مخالف لحاله من الشمال. فمثله مثل هذه الأبيات التي هي في كتاب سيبويه كما أذكر، وقد غيرها بعض الناس رغبة في إصلاح الوزن، وهي:

كيف رأَيتَ زبْرا

أأقِطاً أَو تمْرا

أم قرشيّاً بازلاً هِزَبْرا

ألا ترى إلى قصر البيتين الأولين وطول البيت الثالث؟ وبعضهم ينشده:

أم قرشيّاً صَقْرا

والرواية الصحيحة في كتاب سيبويه كما أخبرتك. والرواية الأخرى أصح وأوزن. وقد جاء عنهم نظير لذلك وهو منه، قال الراجز: ٣يا تَيْمُ كوني جَدِلَهْ

<<  <   >  >>