وليس حذفه لجوار ذلك الحرف، وإنما هو محذوف للزيادة، ولا ينكسر بهذا ما أصلت. ولو رخمت منطلقاً لقلت: طليق، فحذفت الميم والنون، وليس هذا الحكم متعلقاً بالأول والآخر، وإنما هو متعلق بالزائد والأصلي.
وكأني بوالي هذا المصر كامل صنيعة السيد " عزيز الدولة " - أعز الله نصره - وقد ركب لحياطة الجالية وكف الدعرة، وقد سكنت الدموك المجعجعة لطعامه على النقمى، وهرب الفعفعى الذي كان يسحط له النقد ويشصب أولاد الحذف، وخمد حميس الحضاء الخامط لخوانه البذج أو العمروس في أين الآزة من المغرغرات، من يلقي إلى صاحب قناعه شبيهات الزبرقان. وهو بإقبال السيد " عزيز الدولة أمير الأمراء " - أعز الله نصره، متجلد على ذلك لم يبن فيه الخور ولا الضعف.
فمثله مثل سميه من الشعر وهو الوزن الكامل تذهب منه ست حركات فلا يغيض ذهابهن منه، بل يمكث على السجية المعهودة، ولا يعلم ما ذهب منه إلا أهل الخبرة، كما قال " عنترة ":
بَكرَتْ تُخَوِّفُني الحُتُوفَ كأَنني ... أَصبحتُ من غرَضِ الحُتُوفِ بِمَعزِلِ
فاقْنَى حياءَك لا أَبَا لَكِ واعلمي ... أَني امرؤُ سأَموتُ إِن لم أُقْتَلِ
إِني امرؤُ من خَيْرِ عَبْسٍ منصباً ... شَطري، وأَحْمِي سائري بالمُنْصُلِ
فالبيت الذي قافيته: بالمنصل، قد ذهبت منه حركات ست، وهو في الغريزة كغيره من الأبيات لم يبن فيه الخلل ولا التقصير. وكذلك أهل الفضل والبقية يصبرون في الشدائد ويتحملون، ولا يشعر عامة الناس بما عندهم من فقر المال ومعاناة الخطوب. وأهل الشفقة والخفة تبدو منهم الشكية ويظهر الشكع. فمثلهم مثل قول " الأعشى ":
تَسْمعُ للحَلْيِ وَسْواساً إِذا انصرفتْ ... كما استعانَ بِرِيحٍ عِشرِقٌ زَجلُ
أول حرف ذهب منه عرف خلله وظهرت شكيته، ولم يتجمل فيصبر كما صبر قول " امريء القيس ":
كدَأبِكَ من أمِّ الحُوَيْرِثِ قَبْلَها ... وجارتِها أمِّ الرِّبابِ بمَأسَلِ
قد ذهبت منه أربعة أحرف ولم يعلم بذهابهن.
وأما صاحب المعونة فكان مثله مثل " ما " الحجازية بطل عملها فكأنها صارت التميمية، لأنك إذا قلت: ما زيد قائماً، ف " ما " قد علمت الرفع والنصب. وإذا قلت: ما زيد قائم، فما لم تعمل شيئاً.
وأما القاضي فتربك هذه الأرض ولحق بوطنه " بالس " ردته إليها الضرورة، فكان مثله مثل المرفوع من الأعلام في النداء لما لحقته الضرورة فنون، رجع إلى أصله وهو النصب، كما قال " مهلهل ":
ضربتْ صدرَها إِليَّ وقالتْ ... يا عَدِيّاً لقد وقَتْكَ الأَواقي
وكما قال الآخر:
دعَوتُ عَدِيّاً والمَهَامِهُ بيننا ... يا عَدِيّاً يا عَدِيَّ بنَ نَوفَل
وأما العدول، فوضعوا السيجان والمشاوذ وتهيئوا للنفر إن صاح الصائح فكان مثلهم مثل الأسماء المتغيرة عن هيئتها عند الضرورة، كما قال الراجز:
جاءَت عجوزٌ مِنْ أَعَالِي البَرِّ
قد تركتْ حَيْهِ وقالت حَر
ثم أَمالتْ عُنُقَ الحِمَرِّ
سَيْراً على جانبِها الأَيسَرِّ
فنبى الحمار، وهو فعال، على فعل. وقالت أخت " حازوق الخارجي " ترثيه:
أُقَلِّبُ عَيني في الفوارِسِ لا أَرى ... حِزَاقاً وعَيْني كالحَجاةِ من القَطْرِ
فنقلته من فاعول إلى فعال. وكذلك قول " دريد ":
أَخُناسُ قد هامَ الفؤادُ بكم ... واعتادَه نُصْبٌ إِلى نُصْبِ
وكأني بأصحاب البز وقد كفت عن أرجلهم الحيش، وخلط هلعهم بين ثياب العطب وثياب الشريع، جعل السبيبة مع المخيط، وأضاف البجد إلى ما رق من البرود. فكان مثلهم مثل من ركب قصيدة مقيدة جمع في رويها المسكن، بين أشتات الحروف، ولم يبال إذا سلمت له القافية من لحاق العيوب كيف وقع ترتيب الكلمة في الأصل.
ألا ترى أن قول " الأعشى ":
لَعَمْرُكَ ما طولُ هذا الزمَنْ ... على المرءِ إِلا عَناءٌ مُعَنْ
قد جمع بين قوافيه وهي مختلفة النجار، لأنه قال: الزمن، فسكن ونونه في الأصل مكسورة، ثم قال: معن، فحذف من الكلمة حرفين وجعل النون التي أصلها السكون مع النون التي أصلها الكسرة؟ وقال فيها:
وأَشربُ بالريفِ حتى يقالَ ... قد طال بالريف ما قد رجَنْ
فجاء بنون أصلها الفتح. وقال فيها: