للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ومِنْ شانيءٍ كاسِفٍ وجهُه ... إِذا ما انتسبْتُ له أَنْكَرَنْ

يريد: أنكرني. فجعل مع النونات، التي تدخل لسلامة آخر الأفعال الماضية من الكسر، وهي مباينة لنون: زمن ومعن ورجن.

وكذلك البزاز لا يحفل إذا سلم متاعه باختلاف الترتيب.

فأما الصيدلاني فكان دكانه مرتباً على أحسن هيئة كما نضد " ذو الرمة " قصيدته البائية:

ما بالُ عَيْنِكَ منها الماءُ يَنْسَكِبُ

والميمية:

أَأَنْ تَرَسَّمتَ من خَرْقاءَ منزلةً ... ماءُ الصَّبابةِ من عَينيك مسجومُ

وإنما ذكرت هاتين القصيدتين لأنهما على طولهما سلمتا من الزحاف الظاهر في الغريزة، ولم يأت فيهما نحو من قول " الأعشى؛:

عُلِّقْتُها عَرَضا وعُلِّقَتْ رجلاً ... غيري، وعُلِّقَ أخرى غيرَها الرجل

ولا مثل قول " زهير ":

قد جَعَلَ المُبتَغونَ الخَيرَ في هَرِمٍ ... والسائلونَ إِلى أَبوابِه طُرُقَا

والمثل قول الآخر:

نَكفِيه إِنْ نحنُ مُتْنا أَن يُسَبَّ بنا ... وهْوَ إِذا ذُكِرَ الأَبناءُ يَكفِينا

فانتقض ترتيب الدكان حتى صار كأنه كلمة " عدي بن زيد " التي على الراء المقيدة، أو أبيات " بيهس، المعروف بنعامة " وإنما سميتها أبياتاً لأن الرواة يوقعون عليها هذا الاسم، ولا نظام لها في الحقيقة. والأبيات:

يا لَها نفساً يا لَها ... أَنَّى لها الطُّعُم والسلامَهْ

قد قتل القومُ إِخوتَها ... فبكلِّ أَرضٍ زُقاءُ هامه

فلأَطرُقَنْ قوماً وهم رقودٌ ... ولأَبْرُكَنْ بَرْكَ النعامه

قابِضَ رِجْلٍ وباسِطَ أخرى ... والسيفَ أَقرمُه أُسَامه

فترى الدكان وقد اختلط إهليجه بالعناب والصبار، ووتيره المعلول بسليل المصاب قد وقع فيه بعض الأدهان. وكذلك القاهي صار عنجده مع البلس وخليط الضرو، وفرى عفزه بالقمروض، ولحق في تغير الهيئة بالصيدلاني.

وتخلو عند ذلك أحشاء الخضر والسود اللواتي طال ما اشتملن على ضمائر حارة باردة، تلذها أفواه الواردة.

ويعطل في هذه الفادحة بيت المسيح فلا يدخله المسلم ولا النصراني.

ويكون ماؤه في اليوم الأول شخيماً وفي اليوم الشافع بارداً، ثم تصفر أنابيب الحميم فتصفر بها جنود الريح.

ويأخذ أخو الضغيل سيفه الذي يزعم أنه من الجنثى المنسوب من رهط مخزم أو رسوب، وذات نصابه الجارية على رءوس السوق والملوك فلا تزال ترتع في أسود حلكوك مثل التنوم، وأصهب كأنه لحي الروم وخليس كريم الجاشر ومصوح الرياض وأهل علوة إذا خالطوا أهل طراز، وأبيض كأنه الثغام. ويضيف إلى هذين المذكورين، صنوين له مملوكين يرعيان في الأماكن العزيزة وهما متفقان ولا يمكن أحدهما مرعاه وهما مفترقان. فيذهب لشأنه في أرض الله أين ما وقع خدم وأرق الدم، فلا يطلب أبداً بثار ولا يحسب قبيح الآثار، وقد حمل معه خضراوين تمتلئان كل يوم وتفرغان من دماء أهل العمد أو أهل المغاني.

وأما قين القلبة والخدم وصانع الرعاث والثوم والذي يزين صغريات الشناتر بالفتخة أو الحلق المتخذ من سام خزيبة أو سيراء ذي سامة، فخمد أجيج ناره، وخلص من الجحيم شخص ديناره؛ ورأيته يحمل أداته، روحته للهرب أو غداته:

يا لَبَكْرٍ انشروا لي كُلَيْباً ... يا لَبَكرٍ أَيْنَ أَينَ الفِرارُ

فمثله مثل شاعر مجيد كان يصنع في مدائح " السيد عزيز الدولة، أعز الله نصره " صنوف الأشعار المختلفة بين خفيف وثقيل، وكلاهما يحسن من القيل؛ وبيت قصر وبيت طال، وكل ما صنع ليس بالمعطال؛ فمن قصيدة كالخلخال ليس بناؤها من معنى بخال، ومن أخرى مثل السوار صدرت عن صدر بالفكرة شديد الأوار، وسائرة في الآفاق خفيفة المحمل على الرفاق، كأنها القرط العطر أو الشنف، حملته الأذن وساف رياه الأنف، وأبيات عملت في بديه ختم بها المجلس ونجوى ناديه، فكأنها خاتم يد ختم بها وقت غير مفند؛ فأدركته علة من أمر الله عاقت الخلد عن الفكر واللسان عن الذكر.

وأما الهالكي في هذه الناحية، فإنما يصنع خصيناً أو مسحاة أو حدأة منحاة أو سنة ينتفع بها في المعزقة. وربما صنع مدية للأقلام وذات جزأة يذمها أوداج الذبيح. ومهما فعل فإنه لا محالة سيرفض فلا ينظر إليه.

<<  <   >  >>