وإنك لترى الضرورة الواقعة وقد فعلت في القوم الشيء وضده، وذلك بقضاء الله العالم بخفي الأمور: فترى الرجل أخا النشاط والمرح قد حمل على ظهره الأوق المثقل، فصار يهدج هداج الشيخ ويدلف دليف الهم الكبير. وترى الآخر الذي كان يمشي هوناً على الأرض وقد استعجله عن السجية الخوف فأرغب الشحوة واجتهد في التوقص، فيكون مثله ومثل الذي قبله، مثل " امريء القيس " و " طرفة " وقد حملت الضرورة " الكندي " على أن يسكن الباء في قوله:
فاليومَ أَشربْ غيرَ مُستَحقبٍ ... إِثماً من اللهِ ولا واغِلِ
هكذا أنشده " سيبويه " وقد خولف في هذه الرواية.
وحملت الضرورة " البكرى " على أن حرك الباء في قوله:
اِضرِبَ عنك الهموم طارِقَها ... ضربَك بالسَّوْطِ قَوْنَسَ الفرس
والبصريون يرون أنه أراد النون الخفيفة فحذفها وبقيت الحركة. وكان " الفراء " يذهب إلى أنه لما تتابع متحركات أربع كل واحد منها بعده ساكن، حسن في نفس الشاعر أن يحرك بعض السواكن. وهذا قول حسن لأن أعدل الكلام عندهم متحركان بعدهما ساكن، أو ساكن بين متحركين.
وإنك لترى الرجل من يهود، وهم أهل لين وضعف، يظهر التشدد والتجلد على ما نزل فيخرج به ما فعل عن الطبع، ويكون مثله مثل الحرف الذي يقع به التشديد في الوقف ثم يستعمل كذلك في الوصل فينكره السمع وتنفر منه الغريزة، كما قال " هميان بن قحافة " وذكر الثور الوحشي:
والقَطْرُ عن مَتْنيه مُرْمَعِلُّ ... وهوَ إِلى الأَرطاةِ مُستَظِلُّ
يقولُ: أَصبِحْ ليلُ، لو يَفْعَلُّ ... حتى إِذا الصبحُ بدا الأَشعَلُّ
ظلَّ كَسَيْفٍ شافَه الصَّيقلُّ
ألا ترى إلى لام: الأشعل، والصيقل، ويفعل، كيف خرجت بالتشديد عن حال العرفان؟ ويهود لا بد لها من لين. ومثلها مثل الأشعار التي لا تخلو أواخرها من الحروف اللينة، وإنما ألزمت ذلك لأنه أحسن بها عند السماع وأسلم لها في اللفظ. وهي تنقسم قسمين: منها ما يلزمه مع اللين التقييد، ومنها ما يكون مطلقاً. فالمقيد مع اللين مثل قول " طرفة ":
مَن عائدِي الليلةَ أَمْ من نصيحْ ... بِتُّ بِهَمٍّ ففؤادي قريحْ
ومثل قول " ربيعة بن مكدم ":
شُدِّي عليَّ العصْبَ أُمَّ سَيَّارْ ... فقد رُزِيتُ فارساً كالدينارْ
ولا ينكسر لزوم اللين هذا الوزن بقول الراجز:
أَسْبِلْنَ أَذيالَ الحِقِيِّ وارْبَعْنْ
مَشيَ حَيِيَّاتٍ كأَنْ لم يَفزعْنْ
إِن يُمنَعِ اليومَ نِساءٌ تُمنَعْن
لأنه محسوب من الشواذ، وإنما كلامنا على ما يكثر ويتعارف.
والأوزان التي يلزمها اللين والتقييد تسعة عند " الخليل " وعشرة في قول " سعيد بن مسعدة " ولا أذكرها فأطيل.
والمنطلق الذي يلزمه اللين - وهو الألف أو الياء المكسور ما قبلها، والواو المضموم ما قبلها - مثل قول " أبي خراش ":
لَعَمْرِي لقد راعتْ أُمَيْمَةَ طَلْعَتي ... وإِن ثوائِي عندها لَقلِيلُ
ومثل قول الآخر:
الخَيْرُ ما طلعتْ شَمْسٌ وما غَرَبَتْ ... مُعَلَّقٌ بِنواصِي الخَيْلِ مَعصوبُ
ومثل قول الآخر:
هَلاَّ سَأَلتَ بِرَامَةَ الأَطلالا ... ولقد سألتَ فمَا أَحَرْن سُؤالاً
فهذه أوزان لا بد في أواخرها من أحد حروف اللين. وقد ذكر " سيبويه " في الإدغام قول الشاعر:
وما كلُّ مُؤتٍ نُصحَه بِلَبيبِ
وذكر أن اللين له لازم. ودل كلامه على أنه لا يجوز أن يستعمل في هذا الوزن قبل الروي ياء مفتوح ما قبلها ولا واو كذلك. وقد ذكر " حبيب بن أوس " في الحماسة أبياتاً على هذا الوزن وقبل رويها ياء مفتوح ما قبلها، وأولها:
لَعَمْرُكَ ما أَخْزَى إِذا ما سببتني ... إِذا لم تَقُلْ بُطْلاً عليَّ ولا مَيْنَا
ويروي: نسبتني: والأبيات معروفة. وهذا خلاف ما أصله " سيبويه " إلا أن قوله يحمل على ما كثر وعرف، لا على ما قل وندر. والياء والواو إذا انفتح ما قلهما ففيهما بعض اللين وإن لم يكمل مثل كماله في: عود، وعيد. وهذا الوزن الذي زعم " سبيويه " أنه لا يفارقه اللين، لا يوجد في شعر العرب إلا على ما قال، ولو فارقه اللين لضعف وقبح، كما ضعف قول " امريء القيس ":