للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ولقد رَحَلْتُ العِيسَ ثم زجرْتُها ... وَهْناً وقلتُ عليكِ خَير مَعَدِّ

وعليكِ سَعدَ بنَ الضِّبابِ فَسَمِّحي ... سَيراً إِلى سَعْدٍ عليكِ بِسَعْدِ

أفلا تسمع هذه القافية كيف ضعفت لفقد اللين؟ فأما الذي يلزمه مع الردف التقييد فقد يجيء مما قبل واوه ويائه وهو مفتوح، وذلك فيه أكثر منه في المطلق. قال الشاعر:

يا رُبَّ مَنْ يُبغضُ أَذْوادَنا ... رُحْنَ على بغضائِه واغتديْنْ

لو يُصبِحُ المَرعَى على أَنفِه ... لَرُحْنَ منه أُصُلاً قد أَنينْ

وقال الراجز:

ما لَكَ لا تَنْبَحُ يا كَلْبَ الدَّومْ ... بعد هدوءِ الحيِّ أَصواتَ القَوْمْ

قد كنتَ نبَّاحاً فما لَكَ اليَوْم

فمثل يهود مثل هذه القوافي لا يحسن بها فقد اللين.

وتختلف آراء الناس في هذه الجولة ويغرها من الجولات، ويكون اختلافها متبايناً كاختلاف العرب في النشيد: فالمقيم منهم مثله مثل الذي يقف على البيت المطلق إذا أنشده بالسكون، فيقول:

أَقِلِّي اللَّومَ عاذِلَ والعِتابْ ... وقولي إِن أَصَبْتُ لقد أَصابْ

والذي يفر إلى مظنة الأمن، مثله مثل الذي يثبت الألف للترنم فيقول: العتابا، وأصابا؛ وهو الذي فعل ما يجب. ومن رحل إلى موضع لا يأمن فيه، فمثله مثل من ينون القوافي في غير موضع التنوين، فيقول: العتابن، وأصابن.

وإنك لتشاهد في القوم الجالين رجلاً فيه أيد وقوة وقد نظر إلى رجل ضعيف وعليه أوق ثقيل فيقول: أعطني أوقك أخفف عنك! فربما حمله عنه الساعة أو الساعتين، فإن كان المنقول إليه الثقل متقدماً فمثله مثل الحرف الذي يكون قبل الحرف الموقوف عليه فتنقل إليه حركته، كما قال " جرير بن عبد الله البجلي ":

أَنا جريرٌ كُنْيَتي أَبو عَمِرْ ... أَجُبناً وغيْرةً خلفَ السَّتِرْ

قد نصرَ اللهُ وسَعْدٌ في القَصِرْ

وقال آخر يوم فتح مكة من حزب الكفار:

قد علِمتْ بيضاءُ من بني فِهِرْ ... نقِيةُ الوجهِ نقية الصَّدِرْ

لأَضربنَّ اليومَ عن أَبي صَخِرْ

فهذا يستعلمونه في الوقف وليس بضرورة. فإذا أطلقوا حسب من الضرورات كما قال " أوس بن حجر ":

أَبَنِي لُبَيْنَى لَستُمُ بِيَدٍ ... إِلا يداً ليست لها عضُدُ

أََبني لُبَينى إِن أُمَّكمُ ... أَمَةٌ وإِن أَباكمُ عَبُدُ

يريد: إن أباكم عبد، فحرك الباء بحركة الدال كأنه يريد الوقف ثم أطلق وبقيت الباء على الضم.

وإن كان الذي ينتقل إليه العبء متأخراً في الرفقة، فمثله مثل الحرف الذي تأتي حركته على ما بعده، كما قال رجل من أهل السراة:

أَلاَ رُبَّ مَوْلودٍ وليسَ له أَبٌ ... وذي وَلَدٍ لم يَلْدِه أَبَوانِ

يعني آدم والمسيح صلى الله عليهما. وكما قال الآخر:

فواللهِ لولا بغضُكم ما تركتكم ... ولكنني لم أَجْدِ من بُغضِكم بُدَّا

فسيبويه يرى في قوله: " لم يلده أبوان " أنه مفتوح الدال، وأنهم لما سكنوا اللام وهي مكسورة فراراً من الكسر، لم يكونوا ليكسروا الدال، والفتحة عنده لالتقاء الساكنين ولإتباع الفتح الفتح في ياء: يلده.

ومن أجاز الكسر في: لم يلده، فإنه يحمله على أحد وجهين: التقاء الساكنين، أو نقل حركة اللام إلى الدال. وهذا الوجه الذي يصح عليه التشبيه المقصود في هذا الموضع من نقل العبء عن المتقدم إلى المتأخر. وإنما قلت ذلك لأن الحركة ثقل على الحرف. وقد قال بعض الناس في قول " عامر بن جوين ":

فلم أَرَ مثلَها خُبَاسةَ واحدٍ ... ونَهنَهتُ نفسِي بعدما كِدتُ أَفْعلَهْ

أنه نقل حركة هاء التأنيث إلى اللام. فأما " سيبويه " فدل كلامه على أنه أراد: أن. ويقال: بل أراد النون الخفيفة. وإذا صح مذهب من يزعم أن حركة هاء التأنيث تنقل إلى ما قبلها في الوقف - وهي عندهم لغة لخمية - فهي مثل لرجل طرح ثقل نفسه وحمل ثقل غيره. وقد يتصرف ذلك على الحمد والذم، فإذا حمل على التضييع فهو مذموم كما قال القائل:

كتارِكَةٍ أبَيْضَها بالعراءِ ... ومُلْبِسَةٍ بَيْضَ أُخرى جَنَاحَا

وإذا حمل على الإيثار فهو محمود، كما قال " عروة بن الورد ":

<<  <   >  >>