وبعضها لا يتبين إلا في اليوم الثاني، فمثله مثل المعنى المستودع في البيتين، كما قال " زهير ":
تاللهِ قد علمتْ سراةُ بني ... ذبيانَ عامَ الجَدْبِ والأَصْرِ
أَنْ نِعْمَ مُعتَركُ الجياع إِذا ... حُبَّ الطعامُ وسابىءُ الخَمْرِ
وبعض الأخبار لا يتبين إلا بعد أيام يقل عددها أو يكثر، فمثله مثل المعنى الذي يبدأ به في البيت ثم لا يعرف تمامه إلا بعد أبيات، كما قال " سحيم ":
فمَا بيضةٌ باتَ الظَليمُ يَحُفُّها ... ويَرفَعُ عنها جُؤجؤاً مُتجافِيا
ويَجعلُها بينَ الجناحِ ودَفِّهِ ... ويُلْحِفُها وَحْفاً من الرِيشِ وافيا
ويرفعُ عنا وهي بيضاءُ طَلَّةٌ ... وقد وافقتْ فَرعاً من الشمسِ ضاحيا
بأَحسنَ منها يومَ قالت أَرائِحٌ ... مع الركبِ أَم ثاوٍ لدينا لَيالِيَا
ألا ترى أن المعنى لم يكمل إلا في البيت الرابع؟ وقد أنعم الله على هذه الرفقة الراحلة بأمنها من العرب، بتدبير " السيد عزيز الدولة " - أعز الله نصره - لأن الله سبحانه أدال به الرعية ونقلها مما كانت فيه، فكان مثلها مثل لام التعريف، لما رآها الله تعالت قدرته تدغم في ثلاثة عشرة حرفاً من حروف المعجم على لغة أهل الحجاز والعالية وكل ساكن في أرض العرب إلا من شاء الله، قيض لها قوماً من اليمن من حمير، يجعلونها ميماً فلا تدغم في شيء من الحروف، كما لا تدغم فيها الميم والحروف التي تدغم فيها لام التعريف تنقسم في ترتيب حروف المعجم ثلاثة أقسام، فالقسم الأول حرفان متواليان وهما الثالث من حروف المعجم والرابع، وذلك: التاء والثاء - والثاني: عشرة أحرف متواليات أولها الدال على ترتيب حروف المعجم وآخرها الظاء. والثالث: حرف فارد تدغم فيه اللام وهو النون. وأما لغة حمير في تصييرهم لام المعرفة ميماً، فقد جاءت في الحديث المأثور عنه صلى الله عليه وسلم، وذلك أنه قال: " ليس من امبر امصيام في امسفر " ودخل " أبو هريرة " على " عثمان " وهو محصور فقال: " طاب امضرب " يريد: طاب الضرب. وأنشد " أبو عبيد القاسم بن سلام ":
ذاكَ خَليلي، وذو يُناصِحني ... يَرمي ورائي بامْسَهمِ وَامْسَلْمَه
يريد: بالسهم والسلمة. وأنشد غيره لبعض شعراء اليمن:
سَبَتْنِي حِبَّتِي رُهْمُ ... بوَجْهٍ مِثلِ ذي امْشرْق
وفرعٍ مثلِ عنَّابٍ ... وفَرْقٍ أَيما فَرْقِ
إِذا تَمشِي تِدفَّاعاً ... كَمشي امْفحلِ ذي امْوَسْقِ
أَلا يا لَيْتَها لُدْغَتْ ... وأُدْعَى كِيمَ ذي أَرقِي
أراد: الشرق، والفحل " ذا " الوسق. وأراد بلدغت: لدغت، فسكن على لغة ربيعة، كما قال:
دَبْرتْ صَفْحتاه وكاهِلُه
وكأنك بالرجل من هؤلاء إذا سار الفرسخ أو الفرسخين، وضع ما حمله في دار المضيعة في بعض القريات ثم رجع يفتقد منزله وقد خبأ في جب له مالا يمكنه أن يحمله من القربشوش مثل إكاف حمار متكسر، وتابوت قدم. عليه العهد فتزايل، وجوالق فيه عفص أو نحو ذلك؛ وظن أنه قد أحرزه وهو ينادي على نفسه بأثر الطمر والحفر، لو دخل إليه من في عينيه الهدبد والسمادير أو الجذل أو الجثر والظفرة أو الجدجد والقمع، لم يخف عليه مكانه. فمثله مثل المضمر على شريطة التفسير لا يخفى مكانه على السامعين كما قالوا: نعم رجلاً زيد. ألا ترى أن في: نعم، ضميراً قد فسره قولك: رجلاً؟ وكذلك هذه الآية: " إنه من يأت ربه مجرماً " فالهاء في: إنه. قد فسرتها الجملة التي بعدها.