فليشكر أهل هذه البلاد ربهم عزت كلمته، ثم السيد " عزيز الدولة " - أعز الله نصره - كما أصلح أمورهم مع العرب، فسلكوا في واد وجبل وهم آمنون، وأن الله سبحانه رحمهم فلم يجمع عليهم خوفين: خوف العرب وخوف الروم، كما لم يجمع على الحرف الواحد من السماء والأفعال علة العين واللام في حال واحدة، ولكن إن اعتلت اللام صحت العين، وإن اعتلت العين فاللام صحيحة لا محالة. ألا ترى أن اللام لما اعتلت في حياة نواة صحت العين لا غير، وأن العين لما اعتلت في غاية وراية جاءت اللام صحيحة؟ فأما شاء فعينه معتلة ولامه صحيحة، لأنها إما همزة أصلية غير مبدلة وإما مبدلة من الياء. وكذلك قولهم: شوى وعوى، لما اعتلت اللام لم يكن بد من صحو العين. على أن ابن آدم قد يخالف اللفظ في هذه الرتبة فتجتمع فيه العلل الكثيرة، ومثله في ذلك مثل البيت من الموزون يجوز أن يجتمع فيه زحاف وخرم وحذف ملازم وضرورة شعر مع ذلك. وقد روى أن " عطاء بن أبي رباح المكي " كان أعور أشل أعرج، ثم عمى وأقعد.
ولزعيم الروم أوقات تكون مظنة لنهوده إلى هذه الناحية، منها وقت الخريف إذا استقبل الشتاء وبعدت البادية عن هذه الأرض، فمثله مثل الترخيم يوجد في النداء دون غيره فإذا جاء في غير النداء فإنما تلك ضرورة، كما قال:
إِنَّ ابنَ حَارِثَ إِن أَشْتَقْ لِرؤيتهِ ... أَو أَمتَدِحْه فإِن الناسَ قد عَلِموا
وكما قال الآخر:
ولَيْلةٍ صَرِيمُها كالخَزِّ ... أَدْلجتُها من أَجلِ أمِّ عَزِّ
وأمُّ عَزٍّ من عَتِيق البزِّ
يريد: أم عزة.
وقد خرج زعيم الروم سنة خمس وثمانين في إبان الربيع، وإنما حملته على ذلك ضرورة دعت إليه، لأن من كان بحلب، حرسها الله، استدعاه لينصره على محاصريه. والسيد " عزيز الدولة أعز الله نصره " مع من حارب كما قال " ابن عنمة ":
إِنْ تَسأَلوا الحَقَّ نُعْطِ الحقَّ سائلَه ... والدِرْعُ مُحْقَبَةٌ والسيفُ مقروبُ
وأخلق بعدوه أن يكون كأبي أروى لما قال فيه القائل:
ودَاعٍ دَعاهُ البغيُ والحَيْنُ كَاسْمِه ... ولِلحَيْنِ أَحداثٌ تَصدُّ عن الحزم
دَعَوْتُ أَبا أَروى إِلى الرأْي كي يَرى ... برأْيٍ أَصيلٍ أَو يَعودَ إِلى حِلْم
أَتاني يَشُبُّ الحربَ بيني وبينه ... فقلت له لا بلْ هَلُمَّ إِلى السَّلمِ
وإِياكَ والحربَ التي لا أَدِيمُها ... صحيحٌ، وقد تُعدِي الصِّحاحَ من السُّقم
فإِن ظَفِرَ القومُ الذي أَنتَ فيهمُ ... وآبُوا بِفَضلٍ من سِبَاءٍ ومنْ غُنمِ
فلا بُدَّ من قَتْلَى لعلكَ مِنهمُ ... وإِلاَّ فجُرْحٌ لا يَحِنُّ على العَظمِ
ولمَّا رَمَى شخْصِي رميتُ سوادَه ... ولا بُدَّ أَنء يُرمَى سوادُ الذي يَرمِي
فكانَ صريعَ الخَيْلِ أَوَّلَ وَهْلةٍ ... فأَهوِنْ به مُختارَ جَهْلٍ على عِلْمِ
وأهل ملته يزعمون أنه لو خرج لم ينصرف. وكذبوا، لو خرج لصغره السيد " عزيز الدولة " - أعز الله نصره - فانصرف. وإنما عنيت صغره، من الصغار. ألا ترى أن عمر وقثم وزفر، إذا صغرن انصرفن، وكذلك مساجد إذا كان اسم رجل ثم صغر فإنه ينصرف؟ فهذا حكم في انصراف الطاغية، وقد ينصرف بالضرورة، كما قال:
ضواربَ بالأَيدي وراءَ بَراغِزٍ ... صِغارٍ كآرامِ الصريمِ الخواذِلِ
ولأهل هذه المحلة عادة إذا خرج زعيم الروم، أن تنزل طائفة منهم عظيمة بالضيعة المعروفة ب " تل منس " ولا ريب أنهم يجرون في هذه التارة مجراهم في القديم. وليس من فعل ذلك منهم بالمصيب: إن كان ما بلغهم من هذا الخبر حقاً فقد رموا بحرائبهم في نحر العدو، وإن كان كذباً فقد أخلوا الأوطان ولم يحلوا بأماكن الأحرار.
يا هَيَّما يا هَيَّما يا هَيَّما ... بِتْنَ مُنَاخاتٍ وبتْنَا نُيَّما
ولو سَرَوا يا مَيُّ كان أَحْزَمَا